للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هَذِهِ صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لِسَرَابٍ، وَالظَّمْآنُ: الْعَطْشَانُ، وَتَخْصِيصُ الْحُسْبَانِ بِالظَّمْآنِ مَعَ كَوْنِ الرَّيَّانِ يَرَاهُ كَذَلِكَ، لِتَحْقِيقِ التَّشْبِيهِ الْمَبْنِيِّ عَلَى الطَّمَعِ حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً أَيْ: إِذَا جَاءَ الْعَطْشَانُ ذَلِكَ الَّذِي حَسِبَهُ مَاءً لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا مِمَّا قَدَّرَهُ وَحَسِبَهُ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْكُفَّارَ يُعَوِّلُونَ عَلَى أَعْمَالِهِمُ الَّتِي يَظُنُّونَهَا مِنَ الْخَيْرِ، وَيَطْمَعُونَ فِي ثَوَابِهَا، فَإِذَا قَدِمُوا عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَمْ يَجِدُوا مِنْهَا شَيْئًا، لِأَنَّ الْكُفْرَ أَحْبَطَهَا وَمَحَا أَثَرَهَا، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: حَتَّى إِذا جاءَهُ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بشيء، أنه جاء الموضع الذي كان يحسبه فِيهِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ مَا يَدُلُّ عَلَى زِيَادَةِ حَسْرَةِ الْكَفَرَةِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قُصَارَى أَمْرِهِمْ مُجَرَّدُ الْخَيْبَةِ كَصَاحِبِ السَّرَابِ فَقَالَ: وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ أَيْ: وَجَدَ اللَّهَ بِالْمِرْصَادِ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ، أَيْ: جَزَاءَ عَمَلِهِ، كَمَا قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:

فَوَلَّى مُدْبِرًا يَهْوَى حَثِيثًا ... وَأَيْقَنَ أَنَّهُ لَاقَى الْحِسَابَا

وَقِيلَ: وَجَدَ وَعْدَ اللَّهِ بِالْجَزَاءِ عَلَى عَمَلِهِ، وَقِيلَ: وَجَدَ أَمْرَ اللَّهَ عِنْدَ حَشْرِهِ، وَقِيلَ: وَجَدَ حُكْمَهُ وَقَضَاءَهُ عِنْدَ الْمَجِيءِ، وَقِيلَ: عِنْدَ الْعَمَلِ، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ. وَقَرَأَ مَسْلَمَةُ بْنُ مُحَارِبٍ «بَقِيعَاهِ» بَهَاءٍ مُدَوَّرَةٍ كَمَا يُقَالُ رَجُلٌ عَزْهَاهُ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَرَأَ «بِقِيعَاتٍ» بِتَاءٍ مَبْسُوطَةٍ. قِيلَ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْأَلِفُ مُتَوَلِّدَةً مِنْ إِشْبَاعِ الْعَيْنِ عَلَى الْأَوَّلِ، وَجَمْعُ قِيعَةٍ عَلَى الثَّانِي. وَرُوِيَ عَنْ نَافِعٍ وَأَبِي جَعْفَرٍ وَشَيْبَةَ أَنَّهُمْ قَرَءُوا الظَّمْآنُ بِغَيْرِ هَمْزٍ، وَالْمَشْهُورُ عَنْهُمُ الْهَمْزُ. أَوْ كَظُلُماتٍ مَعْطُوفٌ عَلَى كَسَرَابٍ، ضَرَبَ الله مثلا آخر لأعمال الكفار كما أنه تُشْبِهُ السَّرَابَ الْمَوْصُوفَ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ، فَهِيَ أَيْضًا تُشْبِهُ الظُّلُمَاتِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَعْلَمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ أَعْمَالَ الْكُفَّارِ إِنْ مُثِّلَتْ بِمَا يُوجَدُ، فَمَثَلُهَا كَمَثَلِ السَّرَابِ، وَإِنْ مُثِّلَتْ بِمَا يُرَى، فَهِيَ كَهَذِهِ الظُّلُمَاتِ الَّتِي وَصَفَ. قَالَ أَيْضًا: إِنْ شِئْتَ مَثِّلْ بِالسَّرَابِ، وَإِنْ شِئْتَ مَثِّلْ بِهَذِهِ الظُّلُمَاتِ، فَأَوْ لِلْإِبَاحَةِ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ مِنَ القول في أَوْ كَصَيِّبٍ «١» قَالَ الْجُرْجَانِيُّ: الْآيَةُ الْأُولَى: فِي ذِكْرِ أَعْمَالِ الْكُفَّارِ، وَالثَّانِيَةُ: فِي ذِكْرِ كَفْرِهِمْ، وَنَسَقُ الْكُفْرِ عَلَى أَعْمَالِهِمْ لِأَنَّهُ أَيْضًا مِنْ أَعْمَالِهِمْ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: فَعِنْدَ الزَّجَّاجِ التَّمْثِيلُ وَقَعَ لِأَعْمَالِ الْكُفَّارِ، وَعِنْدَ الْجُرْجَانِيِّ لِكُفْرِ الْكُفَّارِ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ اللُّجَّةُ: مُعْظَمُ الْمَاءِ، وَالْجَمْعُ: لُجَجٌ، وَهُوَ الَّذِي لَا يُدْرَكُ لِعُمْقِهِ. ثُمَّ وَصَفَ سُبْحَانَهُ هَذَا الْبَحْرَ بِصِفَةٍ أُخْرَى فَقَالَ: يَغْشاهُ مَوْجٌ أَيْ: يَعْلُو هَذَا الْبَحْرَ مَوْجٌ فَيَسْتُرُهُ وَيُغَطِّيهِ بِالْكُلِّيَّةِ، ثُمَّ وَصَفَ هَذَا الْمَوْجَ بِقَوْلِهِ: مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ أي: من فوق هذا الموج ثم وصف الموج الثاني فقال: مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ أَيْ: مِنْ فَوْقِ ذَلِكَ الْمَوْجِ الثَّانِي سَحَابٌ، فَيَجْتَمِعُ حِينَئِذٍ عَلَيْهِمْ خَوْفُ البحر وأمواجه، والسحاب المرتفع فَوْقَهُ. وَقِيلَ إِنَّ الْمَعْنَى: يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ بعد مَوْجٌ، فَيَكُونُ الْمَوْجُ يَتْبَعُ بَعْضُهُ بَعْضًا حَتَّى كأنه بَعْضَهُ فَوْقَ بَعْضٍ، وَالْبَحْرُ أَخْوَفُ مَا يَكُونُ إِذَا تَوَالَتْ أَمْوَاجُهُ، فَإِذَا انْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ وُجُودُ السَّحَابِ مِنْ فَوْقِهِ، زَادَ الْخَوْفُ شِدَّةً، لِأَنَّهَا تَسْتُرُ النُّجُومَ الَّتِي يَهْتَدِي بِهَا مَنْ في البحر، ثم إذا أمطرت تلك السحب وَهَبَّتِ الرِّيحُ الْمُعْتَادَةُ فِي الْغَالِبِ عِنْدَ نُزُولِ الْمَطَرِ، تَكَاثَفَتِ الْهُمُومُ، وَتَرَادَفَتِ الْغُمُومُ، وَبَلَغَ الْأَمْرُ إِلَى الْغَايَةِ الَّتِي لَيْسَ وَرَاءَهَا غَايَةٌ، وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ أَيْ: هي ظلمات،


(١) . البقرة: ١٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>