للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مُهاناً ذَلِيلًا حَقِيرًا إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً قِيلَ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ، وَقِيلَ:

مُنْقَطِعٌ. قَالَ أَبُو حَيَّانَ: لَا يَظْهَرُ الِاتِّصَالُ لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ يُضَاعَفُ لَهُ الْعَذَابُ، فَيَصِيرُ التَّقْدِيرُ: إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وعمل عملا صَالِحًا فَلَا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنِ انْتِفَاءِ التَّضْعِيفِ انْتِفَاءُ الْعَذَابِ غَيْرِ الْمُضَعَّفِ. قال: والأولى عندي أن يكون مُنْقَطِعًا، أَيْ: لَكِنْ مَنْ تَابَ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لَا خِلَافَ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ عَامٌّ فِي الْكَافِرِ وَالزَّانِي. وَاخْتَلَفُوا فِي الْقَاتِلِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي النِّسَاءِ وَالْمَائِدَةِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ إِلَى الْمَذْكُورِينَ سَابِقًا، وَمَعْنَى تَبْدِيلِ السَّيِّئَاتِ حَسَنَاتٍ، أَنَّهُ يَمْحُو عَنْهُمُ الْمَعَاصِيَ، وَيُثْبِتُ لَهُمْ مَكَانَهَا طَاعَاتٍ. قَالَ النَّحَّاسُ: مِنْ أَحْسَنِ مَا قِيلَ فِي ذَلِكَ: أَنَّهُ يُكْتَبَ مَوْضِعَ كَافِرٍ مُؤْمِنٌ، وَمَوْضِعَ عَاصٍ مُطِيعٌ. قَالَ الْحَسَنُ: قَوْمٌ يَقُولُونَ التَّبْدِيلُ فِي الْآخِرَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِنَّمَا التَّبْدِيلُ فِي الدُّنْيَا، يُبَدِّلُ اللَّهُ لَهُمْ إِيمَانًا مَكَانَ الشِّرْكِ، وَإِخْلَاصًا مِنَ الشَّكِّ، وَإِحْصَانًا مِنَ الْفُجُورِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: لَيْسَ يَجْعَلُ مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ، وَلَكِنْ يَجْعَلُ مَكَانَ السَّيِّئَةِ التَّوْبَةَ، وَالْحَسَنَةَ مَعَ التَّوْبَةِ.

وَقِيلَ: إِنَّ السَّيِّئَاتِ تُبَدَّلُ بِحَسَنَاتٍ، وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهَمْ. وَقِيلَ: التَّبْدِيلُ عِبَارَةٌ عَنِ الْغُفْرَانِ، أَيْ: يَغْفِرُ اللَّهُ لَهُمْ تِلْكَ السَّيِّئَاتِ، لَا أَنْ يُبَدِّلَهَا حَسَنَاتٍ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالتَّبْدِيلِ: أَنْ يُوَفِّقَهُ لِأَضْدَادِ مَا سَلَفَ مِنْهُ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً هَذِهِ الجملة مقرّرة لما قبله مِنَ التَّبْدِيلِ وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً أَيْ: مِنْ تَابَ عَمَّا اقْتَرَفَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَتُوبُ بِذَلِكَ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا، أَيْ: يَرْجِعُ إِلَيْهِ رُجُوعًا صَحِيحًا قَوِيًّا. قَالَ الْقَفَّالُ: يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ الْأُولَى فِيمَنْ تَابَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَلِهَذَا قَالَ: إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ مَنْ تَابَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَتْبَعُ تَوْبَتَهُ عَمَلًا صَالِحًا، فَلَهُ حُكْمُ التَّائِبِينَ أَيْضًا. وَقِيلَ: أَيْ مَنْ تَابَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُحَقِّقِ التَّوْبَةَ بِفِعْلِهِ، فَلَيْسَتْ تِلْكَ التَّوْبَةُ نَافِعَةً، بَلْ مَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَحَقَّقَ تَوْبَتَهُ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، فَهُوَ الَّذِي تَابَ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا، أَيْ: تَابَ حَقَّ التَّوْبَةِ، وَهِيَ النَّصُوحُ، وَلِذَلِكَ أُكِّدَ بِالْمَصْدَرِ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: مَنْ أَرَادَ التَّوْبَةَ وَعَزَمَ عَلَيْهَا فَلْيَتُبْ إِلَى اللَّهِ، فَالْخَبَرُ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ، كَذَا قِيلَ لِئَلَّا يتحد الشرط والجزاء، فإنه لا يقال من تَابَ فَإِنَّهُ يَتُوبُ، ثُمَّ وَصَفَ سُبْحَانَهُ هَؤُلَاءِ التَّائِبِينَ الْعَامِلِينَ لِلصَّالِحَاتِ فَقَالَ: وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ أَيْ: لَا يَشْهَدُونَ الشَّهَادَةَ الْكَاذِبَةَ، أَوْ لَا يَحْضُرُونَ الزُّورَ، وَالزُّورَ: هُوَ الْكَذِبُ وَالْبَاطِلُ، وَلَا يُشَاهِدُونَهُ وَإِلَى الثَّانِي ذَهَبَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الزُّورُ فِي اللُّغَةِ الْكَذِبُ وَلَا كَذِبَ فَوْقَ الشِّرْكِ بِاللَّهِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الزُّورَ هَاهُنَا: بِمَعْنَى الشِّرْكِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ يَشْهَدُونَ إِنْ كَانَ مِنَ الشَّهَادَةِ، فَفِي الْكَلَامِ مُضَافٌ مَحْذُوفٌ، أَيْ: لَا يَشْهَدُونَ شهادة الزور وإن كان من الشهود والحضور، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهُ، فَقَالَ قَتَادَةُ: لَا يُسَاعِدُونَ أَهْلَ الْبَاطِلِ عَلَى بَاطِلِهِمْ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ: لَا يَحْضُرُونَ اللَّهْوَ وَالْغِنَاءَ، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: الْكَذِبَ. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا، وَالْأَوْلَى عَدَمُ التَّخْصِيصِ بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الزُّورِ، بَلِ الْمُرَادُ الَّذِينَ لَا يَحْضُرُونَ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ الزُّورِ كائنا ما كَانَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً أَيْ: مُعْرِضِينَ عَنْهُ غَيْرَ مُلْتَفِتِينَ إِلَيْهِ، وَاللَّغْوُ: كُلُّ سَاقِطٍ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ. قَالَ الْحَسَنُ: اللَّغْوُ: الْمَعَاصِي كُلُّهَا، وَقِيلَ: الْمُرَادُ

<<  <  ج: ص:  >  >>