للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً هَذَا التَّأْكِيدُ يَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ الْمَطَرِ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مَعْهُودٍ فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ الْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ، أَيْ: سَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ مَطَرَهُمْ، وَالْمُرَادُ بِالْمُنْذَرِينَ الَّذِينَ أُنْذِرُوا فَلَمْ يَقْبَلُوا، وَقَدْ مَضَى بَيَانُ هَذَا كُلِّهِ فِي الْأَعْرَافِ وَالشُّعَرَاءِ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ قَالَ الْفَرَّاءُ: قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي:

قِيلَ لِلُوطٍ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى هَلَاكِهِمْ، وَخَالَفَهُ جماعة فقالوا: إن هذا خطاب لنبينا صلّى الله عليه وسلم، أي: قل الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى هَلَاكِ كُفَّارِ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ، وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا أَوْلَى لِأَنَّ الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ عَلَى النَّبِيِّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَكُلُّ مَا فِيهِ فَهُوَ مُخَاطِبٌ بِهِ، إِلَّا مَا لَمْ يَصِحَّ مَعْنَاهُ إِلَّا لِغَيْرِهِ. قِيلَ: وَالْمُرَادُ بِعِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى: أَمَةُ مُحَمَّدٍ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَالْأَوْلَى حَمْلُهُ عَلَى الْعُمُومِ، فَيَدْخُلُ فِي ذلك الأنبياء وأتباعهم آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ أَيْ: آللَّهُ الَّذِي ذَكَرْتَ أَفْعَالَهُ وَصِفَاتِهُ الدَّالَّةَ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَتِهِ خَيْرٌ، أَمَّا يُشْرِكُونَ بِهِ مِنَ الْأَصْنَامِ، وَهَذِهِ الْخَيْرِيَّةُ لَيْسَتْ بِمَعْنَاهَا الْأَصْلِيِّ، بَلْ هِيَ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:

أَتَهْجُوهُ وَلَسْتَ لَهُ بِكُفْءٍ ... فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ

فَيَكُونُ مَا فِي الْآيَةِ مِنْ بَابِ التَّهَكُّمِ بِهِمْ، إِذْ لَا خَيْرَ فِيهِمْ أَصْلًا. وَقَدْ حَكَى سِيبَوَيْهِ أَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ:

السَّعَادَةُ أَحَبُّ إِلَيْكَ، أَمِ الشَّقَاوَةُ، وَلَا خَيْرَ فِي الشَّقَاوَةِ أَصْلًا. وَقِيلَ الْمَعْنَى: أَثْوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ، أَمْ عُقَابُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ؟ وَقِيلَ: قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ جَرْيًا عَلَى اعْتِقَادِهِمْ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ خَيْرًا.

وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ الْخَبَرُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «تُشْرِكُونَ» بِالْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْخِطَابِ، وَهِيَ اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدٍ وَأَبِي حَاتِمٍ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ وَيَعْقُوبُ «يُشْرِكُونَ» بِالتَّحْتِيَّةِ، وَ «أم» في «يشركون» هي المتصلة، وأما فِي قَوْلِهِ: أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فَهِيَ المنقطعة. وقال أبو حاتم: تقديره آلهتكم خير أم من خلق السموات وَالْأَرْضَ وَقَدَرَ عَلَى خَلْقِهِنَّ؟ وَقِيلَ الْمَعْنَى: أَعِبَادَةُ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ أَوْثَانِكُمْ خَيْرٌ، أَمْ عِبَادَةُ من خلق السموات وَالْأَرْضَ؟ فَتَكُونُ أَمْ عَلَى هَذَا مُتَّصِلَةً، وَفِيهَا مَعْنَى التَّوْبِيخِ، وَالتَّهَكُّمِ، كَمَا فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى.

وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ «أَمَنْ» بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ مَاءً أَيْ: نَوْعًا مِنَ الْمَاءِ، وَهُوَ الْمَطَرُ فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ جَمْعُ حَدِيقَةٍ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْحَدِيقَةُ الْبُسْتَانُ الَّذِي عَلَيْهِ حَائِطٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَائِطٌ فَهُوَ الْبُسْتَانُ، وَلَيْسَ بِحَدِيقَةٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَعِكْرِمَةُ: الْحَدَائِقُ النَّخْلُ ذاتَ بَهْجَةٍ أَيْ ذَاتَ حُسْنٍ وَرَوْنَقٍ.

وَالْبَهْجَةُ: هِيَ الْحُسْنُ الَّذِي يَبْتَهِجُ بِهِ مَنْ رَآهُ وَلَمْ يَقُلْ ذَوَاتَ بَهْجَةٍ عَلَى الْجَمْعِ لِأَنَّ الْمَعْنِيَّ جَمَاعَةُ حَدَائِقَ مَا كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَيْ مَا صَحَّ لَكُمْ أَنْ تفعلوا ذلك، ومعنى هذا النفي الحظر والمنع مَنْ فَعَلَ هَذَا، أَيْ: مَا كَانَ لِلْبَشَرِ وَلَا يَتَهَيَّأُ لَهُمْ ذَلِكَ وَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ مَقْدِرَتِهِمْ لِعَجْزِهِمْ عَنْ إِخْرَاجِ الشَّيْءِ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ.

ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَهُ مُوَبِّخًا لَهُمْ وَمُقَرِّعًا أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ أَيْ: هَلْ مَعْبُودٌ مع الله الذي تقدّم ذكر بعض أفعاله حتى يقرن به، ويجعل له شَرِيكًا لَهُ فِي الْعِبَادَةِ، وَقُرِئَ «أَإِلَهًا مَعَ اللَّهِ» بِالنَّصْبِ عَلَى تَقْدِيرِ: أَتَدْعُونَ إِلَهًا. ثُمَّ أَضْرَبَ عَنْ تَقْرِيعِهِمْ وَتَوْبِيخِهِمْ بِمَا تَقَدَّمَ، وَانْتَقَلَ إِلَى بَيَانِ سُوءِ حَالِهِمْ مَعَ الِالْتِفَاتِ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ فَقَالَ:

بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أَيْ: يَعْدِلُونَ بِاللَّهِ غَيْرَهُ، أَوْ يَعْدِلُونَ عَنِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ، ثُمَّ شَرَعَ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِأَحْوَالِ الْأَرْضِ وَمَا عَلَيْهَا فَقَالَ: أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً الْقَرَارُ: الْمُسْتَقِرُّ، أَيْ: دَحَاهَا وسوّاها بحيث

<<  <  ج: ص:  >  >>