للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كَالَّذِي يَمُرُّ بِهَا مُسَافِرًا، فَإِنَّهُ يَلْبَثُ فِيهَا يَوْمًا، أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، أَوْ لَمْ يَبْقَ مَنْ يَسْكُنُهَا فِيهَا إِلَّا أَيَّامًا قَلِيلَةً، لِشُؤْمِ مَا وَقَعَ فِيهَا مِنْ مَعَاصِيهِمْ. وَقِيلَ: إِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَرْجِعُ إِلَى الْمَسَاكِنِ، أَيْ: لَمْ تُسْكَنْ بَعْدَ هَلَاكِ أَهْلِهَا إِلَّا قَلِيلًا مِنَ الْمَسَاكِنِ وَأَكْثَرُهَا، خَرَابٌ، كَذَا قَالَ الْفَرَّاءُ وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ مِنْهُمْ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتْرُكُوا وَارِثًا يَرِثُ مَنَازِلَهُمْ، وَأَمْوَالَهُمْ، وَمَحَلُّ جُمْلَةِ «لَمْ تُسْكَنِ» الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهَا خَبَرٌ ثَانٍ لِاسْمِ الْإِشَارَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا أَيْ: وَمَا صَحَّ، وَلَا اسْتَقَامَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ مُهْلِكَ الْقُرَى الْكَافِرَةَ، أَيِ: الْكَافِرُ أَهْلُهَا حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يُنْذِرُهُمْ، وَيَتْلُوَ عَلَيْهِمْ آيَاتِ اللَّهِ النَّاطِقَةَ بِمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَمَا أَعَدَّهُ مِنَ الثَّوَابِ لِلْمُطِيعِ، وَالْعِقَابِ لِلْعَاصِي، وَمَعْنَى أُمِّهَا: أَكْبَرُهَا وَأَعْظَمُهَا، وَخَصَّ الْأَعْظَمَ مِنْهَا بِالْبَعْثَةِ إِلَيْهَا، لِأَنَّ فِيهَا أَشْرَافَ الْقَوْمِ، وَأَهْلَ الْفَهْمِ وَالرَّأْيِ، وَفِيهَا: الْمُلُوكُ وَالْأَكَابِرُ، فَصَارَتْ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ كَالْأُمِّ لِمَا حَوْلَهَا مِنَ الْقُرَى. وَقَالَ الْحَسَنُ: أُمُّ الْقُرَى: أَوَّلُهَا.

وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِأُمِّ الْقُرَى هُنَا مَكَّةُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ «١» الْآيَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ فِي آخِرِ سُورَةِ يُوسُفَ، وَجُمْلَةُ «يَتْلُو آيَاتِنَا» فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: تَالِيًا عَلَيْهِمْ وَمُخْبِرًا لَهُمْ أَنَّ الْعَذَابَ سَيَنْزِلُ بِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ مِنْ أَعَمِّ الْأَحْوَالِ، أَيْ: وَمَا كُنَّا مُهْلِكِينَ لِأَهْلِ الْقُرَى بَعْدَ أَنْ نَبْعَثَ إِلَى أُمِّهَا رَسُولًا يَدْعُوهُمْ إِلَى الْحَقِّ إِلَّا حَالَ كَوْنِهِمْ ظَالِمِينَ قَدِ اسْتَحَقُّوا الْإِهْلَاكَ لِإِصْرَارِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ بَعْدَ الْإِعْذَارِ إِلَيْهِمْ، وَتَأْكِيدِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ كَمَا فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ «٢» ، ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَهُ: وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها الْخِطَابُ لِكُفَّارِ مَكَّةَ، أَيْ: وَمَا أُعْطِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ فَهُوَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا تَتَمَتَّعُونَ بِهِ مُدَّةَ حَيَاتِكُمْ، أَوْ بَعْضَ حَيَاتِكُمْ، ثُمَّ تَزُولُونَ عَنْهُ، أَوْ يَزُولُ عَنْكُمْ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَذَلِكَ إِلَى فَنَاءٍ وَانْقِضَاءٍ وَما عِنْدَ اللَّهِ مِنْ ثَوَابِهِ وَجَزَائِهِ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ الزَّائِلِ الْفَانِي لِأَنَّهُ لَذَّةٌ خَالِصَةٌ عَنْ شَوْبِ الْكَدَرِ وَأَبْقى لِأَنَّهُ يَدُومُ أَبَدًا، وَهَذَا يَنْقَضِي بِسُرْعَةٍ أَفَلا تَعْقِلُونَ أَنَّ الْبَاقِيَ أَفْضَلُ مِنَ الْفَانِي، وَمَا فِيهِ لَذَّةٌ خَالِصَةٌ غَيْرُ مَشُوبَةٍ أَفْضَلُ مِنَ اللَّذَّاتِ الْمَشُوبَةِ، بِالْكَدَرِ الْمُنَغَّصَةِ بِعَوَارِضِ الْبَدَنِ وَالْقَلْبِ، وقرئ بنصب «متاع» على المصدرية، أي: متمتعون مَتَاعَ الْحَيَاةِ، قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو «يَعْقِلُونَ» بِالتَّحْتِيَّةِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْخِطَابِ، وَقِرَاءَتُهُمْ أَرْجَحُ لِقَوْلِهِ: وَما أُوتِيتُمْ أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ أَيْ: وَعَدْنَاهُ بِالْجَنَّةِ، وَمَا فِيهَا مِنَ النِّعَمِ الَّتِي لَا تُحْصَى، فَهُوَ لَاقِيهِ، أَيْ: مُدْرِكُهُ لَا مَحَالَةَ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَأُعْطِيَ مِنْهَا بَعْضَ مَا أَرَادَ مَعَ سُرْعَةِ زَوَالِهِ وَتَنْغِيصِهِ ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ هَذَا مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: مَتَّعْناهُ دَاخِلٌ مَعَهُ فِي حَيِّزِ الصِّلَةِ مُؤَكِّدٌ لِإِنْكَارِ التَّشَابُهِ وَمُقَرِّرٌ لَهُ، وَالْمَعْنَى: ثُمَّ هَذَا الَّذِي مَتَّعْنَاهُ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ بِالنَّارِ، وَتَخْصِيصُ المحضرين بالذين أحضروا للعذاب اقتضاء الْمَقَامُ، وَالِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ، أَيْ: لَيْسَ حَالُهُمَا سَوَاءً، فَإِنَّ الْمَوْعُودَ بِالْجَنَّةِ لَا بُدَّ أَنْ يَظْفَرَ بما وعده بِهِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَفُوتُهُ نَصِيبُهُ مِنَ الدنيا، وهذا حال


(١) . آل عمران: ٩٦.
(٢) . هود: ١١٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>