للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ تَفْصِيلًا وَاضِحًا، وَبَيَانًا جَلِيًّا لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِالْآيَاتِ التَّنْزِيلِيَّةِ، وَالتَّكْوِينِيَّةِ بِاسْتِعْمَالِ عُقُولِهِمْ، فِي تَدَبُّرِهَا وَالتَّفَكُّرِ فِيهَا. ثم أضرب سبحانه على مُخَاطَبَةِ الْمُشْرِكِينَ، وَإِرْشَادِهِمْ إِلَى الْحَقِّ بِمَا ضَرَبَهُ لَهُمْ مِنَ الْمَثَلِ فَقَالَ: بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَيْ: لَمْ يَعْقِلُوا الْآيَاتِ بَلِ اتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمُ الزَّائِغَةَ، وَآرَاءَهُمُ الْفَاسِدَةَ الزَّائِفَةَ، وَمَحَلُّ «بِغَيْرِ عِلْمٍ» : النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: جَاهِلِينَ بِأَنَّهُمْ عَلَى ضَلَالَةٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ أَيْ: لَا أَحَدَ يَقْدِرُ عَلَى هِدَايَتِهِ، لِأَنَّ الرَّشَادَ وَالْهِدَايَةَ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ، وَإِرَادَتِهِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ أَيْ: مَا لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَضَلَّهُمُ اللَّهُ مِنْ نَاصِرِينَ يَنْصُرُونَهُمْ، وَيَحُولُونَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَذَابِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ. ثُمَّ أمر رسوله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِتَوْحِيدِهِ وَعِبَادَتِهِ كَمَا أَمَرَهُ فَقَالَ: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً شَبَّهَ الْإِقْبَالَ عَلَى الدِّينِ بِتَقْوِيمِ وَجْهِهِ إِلَيْهِ وَإِقْبَالِهِ عَلَيْهِ، وَانْتِصَابُ حَنِيفًا: عَلَى الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ أَقِمْ أَوْ مِنْ مَفْعُولِهِ: أَيْ: مَائِلًا إِلَيْهِ مُسْتَقِيمًا عَلَيْهِ، غَيْرَ ملتفت إلى غيره من الأديان الباطلة فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها الْفِطْرَةُ فِي الْأَصْلِ: الْخِلْقَةُ، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا: الْمِلَّةُ، وَهِيَ: الْإِسْلَامُ وَالتَّوْحِيدُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: هَذَا قَوْلُ الْمُفَسِّرِينَ فِي فِطْرَةِ اللَّهِ، وَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ هُنَا: الَّذِينَ فَطَرَهُمُ اللَّهُ عَلَى الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ الْمُشْرِكَ لَمْ يُفْطَرْ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَهَذَا الْخِطَابُ وَإِنْ كَانَ خَاصًّا بِرَسُولِ اللَّهِ، فَأُمَّتُهُ دَاخِلَةٌ مَعَهُ فِيهِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ بِاتِّفَاقٍ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ: وَالْأَوْلَى: حمل أناس عَلَى الْعُمُومِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ مُسْلِمِهِمْ، وَكَافِرِهِمْ، وَأَنَّهُمْ جَمِيعًا مَفْطُورُونَ عَلَى ذَلِكَ لَوْلَا عَوَارِضُ تَعْرِضُ لَهُمْ، فَيَبْقَوْنَ بِسَبَبِهَا عَلَى الْكُفْرِ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ» . وَفِي رِوَايَةٍ: «عَلَى هَذِهِ الْمِلَّةِ، وَلَكِنْ أَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟» ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ. وَفِي رِوَايَةٍ «حَتَّى تَكُونُوا أَنْتُمْ تَجْدَعُونَهَا» . وَسَيَأْتِي فِي آخِرِ الْبَحْثِ مَا وَرَدَ مُعَاضِدًا لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا، فَكُلُّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ النَّاسِ مَفْطُورٌ: أَيْ مَخْلُوقٌ عَلَى مِلَّةِ الْإِسْلَامِ، وَلَكِنْ لَا اعْتِبَارَ بِالْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ الْفِطْرِيَّيْنِ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ الْإِيمَانُ وَالْإِسْلَامُ الشَّرْعِيَّانِ، وَهَذَا قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَقَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَهُوَ الْحَقُّ. وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْفِطْرَةِ هُنَا: الْإِسْلَامُ هُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ السَّلَفِ. وَقَالَ آخَرُونَ:

هِيَ الْبَدَاءَةُ الَّتِي ابْتَدَأَهُمُ الله عليها، فإن ابْتَدَأَهُمْ لِلْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ، وَالسَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ. وَالْفَاطِرُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ هُوَ الْمُبْتَدِئُ، وَهَذَا مَصِيرٌ مِنَ الْقَائِلِينَ بِهِ إِلَى مَعْنَى الْفِطْرَةِ لُغَةً، وَإِهْمَالُ مَعْنَاهَا شَرْعًا. وَالْمَعْنَى الشَّرْعِيُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الشَّرْعِ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ وُرُودُ الْفِطْرَةِ فِي الْكِتَابِ، أَوِ السُّنَّةِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ مُرَادًا بِهَا الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ كَقَوْلِهِ تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ «١» أَيْ: خَالِقُهُمَا وَمُبْتَدِيهِمَا، وَكَقَوْلِهِ: وَما لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي «٢» إِذْ لَا نِزَاعَ فِي أَنَّ الْمَعْنَى اللُّغَوِيَّ هُوَ هَذَا، وَلَكِنَّ النِّزَاعَ فِي الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ لِلْفِطْرَةِ، وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ الْأَوَّلُونَ كَمَا بَيَّنَاهُ، وَانْتِصَابُ فِطْرَةَ عَلَى أَنَّهَا مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِلْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا.

وَقَالَ الزَّجَّاجُ: فِطْرَةَ مَنْصُوبٌ بِمَعْنَى: اتَّبِعْ فِطْرَةَ اللَّهِ، قَالَ: لِأَنَّ مَعْنَى فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ: اتبع


(١) . فاطر: ١.
(٢) . يس: ٢٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>