للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الدَّارَيْنِ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ وَمَنْ إِمَّا مَوْصُولَةٌ، أَوْ مَوْصُوفَةٌ، وَلَهْوُ الْحَدِيثِ كُلُّ مَا يُلْهِي عَنِ الْخَيْرِ مِنَ الْغِنَاءِ، وَالْمَلَاهِي، وَالْأَحَادِيثِ الْمَكْذُوبَةِ، وَكُلُّ مَا هُوَ مُنْكَرٌ، وَالْإِضَافَةُ بَيَانِيَّةٌ. وَقِيلَ:

الْمُرَادُ شِرَاءُ الْقَيْنَاتِ الْمُغَنِّيَاتِ، وَالْمُغَنِّينَ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: وَمَنْ يَشْتَرِي أَهْلَ لَهْوِ الْحَدِيثِ. قَالَ الْحَسَنُ: لَهْوُ الْحَدِيثِ الْمَعَازِفُ وَالْغِنَاءُ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ الْكُفْرُ وَالشِّرْكُ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّ أَوْلَى مَا قِيلَ فِي هَذَا الْبَابِ: هُوَ تَفْسِيرُ لَهْوِ الْحَدِيثِ بِالْغِنَاءِ، قَالَ: وَهُوَ قَوْلُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَاللَّامُ فِي لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لِلتَّعْلِيلِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِضَمِّ الْيَاءِ مِنْ: «لِيُضِلَّ» أَيْ: لِيُضِلَّ غَيْرَهُ عَنْ طَرِيقِ الْهُدَى، وَمَنْهَجِ الْحَقِّ، وَإِذَا أَضَلَّ غَيْرَهُ فَقَدْ ضَلَّ فِي نَفْسِهِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَحُمَيْدٌ، وَوَرْشٌ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ بِفَتْحِ الْيَاءِ، أَيْ: لِيَضِلَّ هُوَ فِي نَفْسِهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَنْ قَرَأَ بِضَمِّ الْيَاءِ، فَمَعْنَاهُ لِيُضِلَّ غَيْرَهُ، فَإِذَا أَضَلَّ غَيْرَهُ فَقَدْ ضَلَّ هُوَ، وَمَنْ قَرَأَ بِفَتْحِ الْيَاءِ فَمَعْنَاهُ لِيَصِيرَ أَمْرُهُ إِلَى الضَّلَالِ، وَهُوَ إن لم يكن يشتري الضلالة، فَإِنَّهُ يَصِيرُ أَمْرُهُ إِلَى ذَلِكَ، فَأَفَادَ هَذَا التَّعْلِيلُ أَنَّهُ إِنَّمَا يَسْتَحِقُّ الذَّمَّ مَنِ اشْتَرَى لَهْوَ الْحَدِيثِ لِهَذَا الْمَقْصِدِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا سَبَبُ نزول الآية وسيأتي. قال الطبري: قَدْ أَجْمَعَ عُلَمَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَى كَرَاهَةِ الْغِنَاءِ وَالْمَنْعِ مِنْهُ، وَإِنَّمَا فَارَقَ الْجَمَاعَةَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ الْعَنْبَرِيُّ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَسْمَعَ غِنَاءَ جَارِيَتِهِ إِذْ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا عَلَيْهِ حَرَامٌ لَا مِنْ ظَاهِرِهَا، وَلَا مِنْ بَاطِنِهَا، فَكَيْفَ يُمْنَعُ مِنَ التَّلَذُّذِ بِصَوْتِهَا؟

قُلْتُ: قَدْ جَمَعْتُ رِسَالَةً مُشْتَمِلَةً عَلَى أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْغِنَاءِ، وَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْمُحَلِّلُونَ لَهُ، وَالْمُحَرِّمُونَ لَهُ، وَحَقَّقْتُ هَذَا الْمَقَامَ بِمَا لَا يَحْتَاجُ مَنْ نَظَرَ فِيهَا، وَتَدَبَّرَ مَعَانِيَهَا إِلَى النَّظَرِ فِي غَيْرِهَا، وَسَمَّيْتُهَا «إِبْطَالُ دَعْوَى الْإِجْمَاعِ، عَلَى تَحْرِيمِ مُطْلَقِ السَّمَاعِ» فَمَنْ أَحَبَّ تَحْقِيقَ الْمَقَامِ كَمَا يَنْبَغِي فَلْيَرْجِعْ إِلَيْهَا.

وَمَحَلُّ قَوْلِهِ: بِغَيْرِ عِلْمٍ: النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: حَالَ كَوْنِهِ غَيْرَ عَالِمٍ بِحَالِ مَا يَشْتَرِيهِ، أَوْ بِحَالِ مَا يَنْفَعُ مِنَ التِّجَارَةِ، وَمَا يَضُرُّ، فَلِهَذَا اسْتَبْدَلَ بِالْخَيْرِ مَا هُوَ شَرٌّ مَحْضٌ وَيَتَّخِذَها هُزُواً قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِرَفْعِ «يَتَّخِذُهَا» عَطْفًا عَلَى يَشْتَرِي فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الصِّلَةِ، وَقِيلَ: الرَّفْعُ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي يَتَّخِذُهَا: يَعُودُ إِلَى الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَالْأَعْمَشُ «وَيَتَّخِذَهَا» بِالنَّصْبِ: عَطْفًا عَلَى يُضِلَّ، وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ رَاجِعٌ إِلَى السَّبِيلِ، فَتَكُونُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ مِنْ جُمْلَةِ التَّعْلِيلِ لِلتَّحْرِيمِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِلْإِضْلَالِ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَاتِّخَاذِ السَّبِيلِ هُزُوًا، أَيْ: مَهْزُوءًا بِهِ، وَالسَّبِيلُ: يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ إِلَى مَنْ، وَالْجَمْعُ بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهَا، كَمَا أَنَّ الْإِفْرَادَ فِي الْفِعْلَيْنِ بِاعْتِبَارِ لَفْظِهَا، وَالْعَذَابُ الْمُهِينُ: هُوَ الشَّدِيدُ الَّذِي يَصِيرُ بِهِ مَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ مَهِينًا وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا أَيْ: وَإِذَا تُتْلَى آيَاتُ الْقُرْآنِ عَلَى هَذَا الْمُسْتَهْزِئِ وَلَّى مُسْتَكْبِراً أَيْ: أَعْرَضَ عَنْهَا حَالَ كَوْنِهِ مُبَالِغًا فِي التَّكَبُّرِ، وَجُمْلَةُ كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: كَأَنَّ ذَلِكَ الْمُعْرِضَ الْمُسْتَكْبِرَ لَمْ يَسْمَعْهَا مَعَ أَنَّهُ قَدْ سَمِعَهَا، وَلَكِنْ أَشْبَهَتْ حَالُهُ حَالَ مَنْ لَمْ يَسْمَعْ، وَجُمْلَةُ كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً حَالٌ ثَانِيَةٌ، أَوْ بَدَلٌ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا، أَوْ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ يَسْمَعُهَا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً، وَالْوَقْرُ: الثقل،

<<  <  ج: ص:  >  >>