للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَفَعْلِ الطَّاعَاتِ، وَالْبَاطِنَةُ: مَا يَجِدُهُ الْمَرْءُ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْعِلْمِ بِاللَّهِ، وَحُسْنِ الْيَقِينِ، وَمَا يدفعه الله عن العبد مِنَ الْآفَاتِ. وَقِيلَ: الظَّاهِرَةُ: نِعَمُ الدُّنْيَا، وَالْبَاطِنَةُ: نِعَمُ الْآخِرَةِ. وَقِيلَ: الظَّاهِرَةُ: الْإِسْلَامُ وَالْجَمَالُ، وَالْبَاطِنَةُ: مَا سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَى الْعَبْدِ مِنَ الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ أَيْ: فِي شَأْنِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِي تَوْحِيدِهِ، وَصِفَاتِهِ مُكَابَرَةً، وَعِنَادًا بَعْدَ ظُهُورِ الْحَقِّ لَهُ، وَقِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا قَالَ: بِغَيْرِ عِلْمٍ مِنْ عَقْلٍ، وَلَا نَقْلٍ وَلا هُدىً يَهْتَدِي بِهِ إِلَى طَرِيقِ الصَّوَابِ وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ أَنْزَلَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، بَلْ مُجَرَّدُ تَعَنُّتٍ، وَمَحْضُ عِنَادٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ أَيْ: إِذَا قِيلَ لِهَؤُلَاءِ الْمُجَادِلِينَ، وَالْجَمْعُ: بِاعْتِبَارِ مَعْنَى مَنْ، اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنَ الْكِتَابِ تَمَسَّكُوا بِمُجَرَّدِ التقليد البحت، وقالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا فَنَعْبُدَ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَهُ مِنَ الْأَصْنَامِ، وَنَمْشِي فِي الطَّرِيقِ الَّتِي كَانُوا يَمْشُونَ بِهَا فِي دِينِهِمْ، ثُمَّ قَالَ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِفْهَامِ لِلِاسْتِبْعَادِ، وَالتَّبْكِيتِ أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ أَيْ: يَدْعُو آبَاءَهُمُ الَّذِينَ اقْتَدَوْا بِهِمْ فِي دِينِهِمْ، أَيْ: يَتْبَعُونَهُمْ فِي الشِّرْكِ، وَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ فِيمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ أَنَّهُ يَدْعُو هَؤُلَاءِ الْأَتْبَاعَ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ، لِأَنَّهُ زَيَّنَ لَهُمُ اتِّبَاعَ آبائهم، والتدين بدينهم، ويجوز أن يراد أن يَدْعُو جَمِيعَ التَّابِعِينَ، وَالْمَتْبُوعِينَ إِلَى الْعَذَابِ، فَدُعَاؤُهُ لِلْمَتْبُوعِينَ: بِتَزْيِينِهِ لَهُمُ الشِّرْكَ، وَدُعَاؤُهُ لِلتَّابِعِينَ: بِتَزْيِينِهِ لَهُمْ دِينَ آبَائِهِمْ، وَجَوَابُ لَوْ: مَحْذُوفٌ، أَيْ: يَدْعُوهُمْ، فَيَتَّبِعُونَهُمْ، وَمَحَلُّ الْجُمْلَةِ: النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ. وَمَا أَقْبَحَ التَّقْلِيدَ، وَأَكْثَرَ ضَرَرَهُ عَلَى صَاحِبِهِ، وأوخم عاقبته، وأشأك عَائِدَتَهُ عَلَى مَنْ وَقَعَ فِيهِ. فَإِنَّ الدَّاعِيَ إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ كَمَنْ يُرِيدُ أَنْ يَذُودَ الْفِرَاشَ عَنْ لَهَبِ النَّارِ لئلا تحترق، فتأبى ذلك وتهافت فِي نَارِ الْحَرِيقِ وَعَذَابِ السَّعِيرِ وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ أَيْ: يُفَوِّضُ إِلَيْهِ أَمْرَهُ، وَيُخْلِصُ لَهُ عِبَادَتَهُ، وَيُقْبِلُ عَلَيْهِ بِكُلِّيَّتِهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فِي أَعْمَالِهِ، لِأَنَّ الْعِبَادَةَ مِنْ غَيْرِ إِحْسَانٍ لَهَا، وَلَا مَعْرِفَةٍ بِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِيهَا لَا تَقَعُ بِالْمَوْقِعِ الَّذِي تَقَعُ بِهِ عِبَادَةُ الْمُحْسِنِينَ: وَقَدْ صَحَّ عَنِ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ لَمَّا سَأَلَهُ جِبْرِيلُ عَنِ الْإِحْسَانِ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى أَيِ: اعْتَصَمَ بِالْعَهْدِ الْأَوْثَقِ وَتَعَلَّقَ بِهِ، وَهُوَ تَمْثِيلٌ لِحَالِ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ بِحَالِ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَرَقَّى إِلَى شَاهِقِ جَبَلٍ، فَتَمَسَّكَ بِأَوْثَقِ عُرَى حَبْلٍ مُتَدَلٍّ مِنْهُ وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ أَيْ: مَصِيرُهَا إِلَيْهِ لَا إِلَى غَيْرِهِ. وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَالسُّلَمِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ «وَمَنْ يُسَلِّمْ» بِالتَّشْدِيدِ قَالَ النَّحَّاسُ: وَالتَّخْفِيفُ فِي هَذَا أَعْرَفُ كَمَا قَالَ عزّ وجلّ: فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ «١» وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ أَيْ: لَا تَحْزَنْ لِذَلِكَ، فَإِنَّ كُفْرَهُ لَا يَضُرُّكَ، بَيَّنَ سُبْحَانَهُ حَالَ الْكَافِرِينَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ بَيَانِ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ تَوَعَّدَهُمْ بِقَوْلِهِ: إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَيْ: نُخْبِرُهُمْ بِقَبَائِحِ أَعْمَالِهِمْ، وَنُجَازِيهِمْ عَلَيْهَا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أَيْ: بِمَا تُسِرُّهُ صُدُورُهُمْ، لَا تَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ خَافِيَةٌ. فَالسِّرُّ عِنْدَهُ كَالْعَلَانِيَةِ نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا أَيْ:

نُبْقِيهِمْ فِي الدُّنْيَا مُدَّةً قَلِيلَةً يَتَمَتَّعُونَ بِهَا. فَإِنَّ النَّعِيمَ الزَّائِلَ: هُوَ أَقَلُّ قليل بالنسبة إلى النعيم الدائم. وانتصاب


(١) . آل عمران: ٢٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>