للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالزُّهْرِيُّ، وَرَبِيعَةُ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ إِنَّمَا خَيَّرَهُنَّ بَيْنَ الدُّنْيَا، فَيُفَارِقُهُنَّ، وَبَيْنَ الْآخِرَةِ، فَيُمْسِكُهُنَّ وَلَمْ يُخَيِّرْهُنَّ فِي الطَّلَاقِ، وَبِهَذَا قَالَ عَلِيٌّ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالرَّاجِحُ الْأَوَّلُ. وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي الْمُخَيَّرَةِ إِذَا اخْتَارَتْ زَوْجَهَا هَلْ يُحْسَبُ مُجَرَّدُ ذَلِكَ التَّخْيِيرِ عَلَى الزَّوْجِ طَلْقَةً أَمْ لَا؟ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ إِلَى أَنَّهُ لَا يكون التخيير مَعَ اخْتِيَارِ الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا طَلَاقًا لَا وَاحِدَةً وَلَا أَكْثَرَ. وَقَالَ عَلِيٌّ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: إِنِ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَوَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَاللَّيْثُ: وَحَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ وَالنَّقَّاشُ عَنْ مَالِكٍ. وَالرَّاجِحُ الْأَوَّلُ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحَيْنِ قَالَتْ: «خَيَّرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاخْتَرْنَاهُ فَلَمْ يَعُدَّهُ طَلَاقًا» وَلَا وَجْهَ لِجَعْلِ مُجَرَّدِ التَّخْيِيرِ طَلَاقًا، وَدَعْوَى أَنَّهُ كِنَايَةٌ مِنْ كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ مَدْفُوعَةٌ بِأَنَّ الْمُخَيَّرَ لَمْ يَرِدِ الْفُرْقَةَ لِمُجَرَّدِ التَّخْيِيرِ، بَلْ أَرَادَ تَفْوِيضَ الْمَرْأَةِ وَجَعْلَ أَمْرِهَا بِيَدِهَا، فَإِنِ اخْتَارَتِ الْبَقَاءَ بَقِيَتْ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنَ الزَّوْجِيَّةِ، وإن اختارت الفرقة صارت مطلقة.

اختلفوا فِي اخْتِيَارِهَا لِنَفْسِهَا هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ طَلْقَةً رَجْعِيَّةً أَوْ بَائِنَةً؟ فَقَالَ بِالْأَوَّلِ: عُمَرُ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَقَالَ بِالثَّانِي: عَلِيٌّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ، وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ. وَالرَّاجِحُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّهُ يَبْعُدُ كُلَّ الْبُعْدِ أَنْ يُطَلِّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ عَلَى خِلَافِ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ، وَقَدْ أَمَرَهُ بِقَوْلِهِ: إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَرُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهَا إِذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا:

فَثَلَاثُ طَلْقَاتٍ، وَلَيْسَ لِهَذَا الْقَوْلِ وَجْهٌ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهَا إِذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَإِذَا اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَوَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ، ثُمَّ لَمَّا اخْتَارَ نِسَاءُ رَسُولِ الله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ رَسُولَ اللَّهِ أَنْزَلَ فِيهِنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ تكرمة لهنّ، وتعظيما لحقهنّ، فقال: يَا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ أَيْ: ظَاهِرَةِ الْقُبْحِ، وَاضِحَةِ الْفُحْشِ، وَقَدْ عَصَمَهُنَّ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ، وَبَرَّأَهُنَّ وَطَهَّرَهُنَّ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ أَيْ: يُعَذِّبْهُنَّ مِثْلَيْ عَذَابِ غَيْرِهِنَّ مِنَ النِّسَاءِ إِذَا أَتَيْنَ بِمِثْلِ تِلْكَ الْفَاحِشَةِ، وَذَلِكَ لِشَرَفِهِنَّ وَعُلُوِّ دَرَجَتِهِنَّ، وَارْتِفَاعِ مَنْزِلَتِهِنَّ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي هَذِهِ الشَّرِيعَةِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّ تَضَاعُفَ الشَّرَفِ، وَارْتِفَاعَ الدَّرَجَاتِ يُوجِبُ لِصَاحِبِهِ إِذَا عَصَى تَضَاعُفَ الْعُقُوبَاتِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو «يُضَعَّفْ» عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَفَرَّقَ هُوَ وأبو عبيد بين يُضَاعَفْ، وَيُضَعَّفْ فَقَالَا: يَكُونُ يُضَاعَفْ ثَلَاثَةَ عَذَابَاتٍ وَيُضَعَّفْ عَذَابَيْنِ. قَالَ النَّحَّاسُ: هَذِهِ التَّفْرِقَةُ الَّتِي جَاءَ بِهَا لَا يَعْرِفُهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَالْمَعْنَى فِي يُضَاعَفْ وَيُضَعَّفْ وَاحِدٌ: أَيْ يُجْعَلُ ضِعْفَيْنِ وَهَكَذَا ضَعَّفَ مَا قَالَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً لَا يَتَعَاظَمُهُ وَلَا يَصْعُبُ عَلَيْهِ وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً قَرَأَ الْجُمْهُورُ «يَقْنُتْ» بِالتَّحْتِيَّةِ، وَكَذَا قَرَءُوا: يَأْتِ مِنْكُنَّ، حَمْلًا عَلَى لَفْظِ مِنْ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ وَيَعْقُوبُ، وَابْنُ عَامِرٍ فِي رِوَايَةٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِالْفَوْقِيَّةِ حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى، وَمَعْنَى «مَنْ يَقْنُتْ» :

مَنْ يُطِعْ، وَكَذَا اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي «مُبَيِّنَةٍ» ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَرَأَهَا بِالْكَسْرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَرَأَهَا بِفَتْحِ الْيَاءِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي النِّسَاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ «نَضْعُفْ» بِالنُّونِ وَنَصْبِ الْعَذَابَ، وَقُرِئَ «نُضَاعِفْ» بِكَسْرِ الْعَيْنِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِالتَّحْتِيَّةِ، وَكَذَا قَرَأَ يَعْمَلْ بِالتَّحْتِيَّةِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ تَعْمَلْ بالفوقية، ونؤت بِالنُّونِ، وَمَعْنَى إِتْيَانِهِنَّ الْأَجْرَ مَرَّتَيْنِ: أَنَّهُ يَكُونُ لَهُنَّ مِنَ الْأَجْرِ عَلَى الطَّاعَةِ مِثْلَا مَا يستحقه

<<  <  ج: ص:  >  >>