للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَقَعَتِ الدَّعْوَةُ إِلَيْهِ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْمَقْصُودِ مِنَ الْأَكْلِ وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ غَيْرَ نَاظِرِينَ، أَوْ عَلَى مُقَدَّرٍ، أَيْ: وَلَا تَدْخُلُوا وَلَا تَمْكُثُوا مُسْتَأْنِسِينَ. وَالْمَعْنَى: النَّهْيُ لَهُمْ عن أن يجلسوا بعد الطعام يتحدّثون بِالْحَدِيثِ. قَالَ الرَّازِيُّ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ تَقْدِيرُهُ:

وَلَا تَدْخُلُوا إِلَى طَعَامٍ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ، فَلَا يَكُونُ مَنْعًا مِنَ الدُّخُولِ فِي غَيْرِ وَقْتِ الطَّعَامِ بغير إذن. وإما أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ: وَلَا تَدْخُلُوا إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ، فَيَكُونُ الْإِذْنُ مَشْرُوطًا بِكَوْنِهِ إِلَى طَعَامٍ، فَإِنْ لَمْ يُؤْذَنْ إِلَى طَعَامٍ فَلَا يَجُوزُ الدُّخُولُ، فَلَوْ أُذِنَ لِوَاحِدٍ فِي الدُّخُولِ لِاسْتِمَاعِ كَلَامٍ لَا لِأَكْلِ طَعَامٍ فَلَا يَجُوزُ، فَنَقُولُ الْمُرَادُ: هُوَ الثَّانِي لِيَعُمَّ النَّهْيُ عَنِ الدُّخُولِ. وَأَمَّا كَوْنُهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا بِإِذْنٍ إِلَى طَعَامٍ، فَلِمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي سَبَبِ النُّزُولِ أَنَّ الْخِطَابَ مَعَ قَوْمٍ كَانُوا يَتَحَيَّنُونَ حِينَ الطَّعَامِ، وَيَدْخُلُونَ مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ فَمُنِعُوا مِنَ الدُّخُولِ فِي وَقْتِهِمْ بِغَيْرِ إِذْنٍ. وَقَالَ ابْنُ عَادِلٍ: الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ: هُوَ الثَّانِي، لِأَنَّ التَّقْدِيمَ وَالتَّأْخِيرَ خِلَافُ الْأَصْلِ، وَقَوْلُهُ: إِلى طَعامٍ مِنْ بَابِ التَّخْصِيصِ بِالذِّكْرِ، فَلَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ مَا عَدَاهُ، لَا سِيَّمَا إذا علم مثله، فإن من جاز دخول بيته بِإِذْنِهِ إِلَى طَعَامِهِ جَازَ دُخُولُهُ بِإِذْنِهِ إِلَى غَيْرِ الطَّعَامِ، انْتَهَى. وَالْأَوْلَى فِي التَّعْبِيرِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَهُ أَنْ يُقَالَ: قَدْ دَلَّتِ الْأَدِلَّةُ عَلَى جَوَازِ دُخُولِ بُيُوتِهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ بِإِذْنِهِ لِغَيْرِ الطَّعَامِ، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ لَا شَكَّ فِيهِ، فَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ وَغَيْرُهُمْ يَسْتَأْذِنُونَ عَلَيْهِ لِغَيْرِ الطَّعَامِ فَيَأْذَنُ لَهُمْ، وَذَلِكَ يُوجِبُ قصر هذه الآية على السبب الذين نزلت فيه، وهو القوم الذي كَانُوا يَتَحَيَّنُونَ طَعَامَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَدْخُلُونَ وَيَقْعُدُونَ مُنْتَظِرِينَ لِإِدْرَاكِهِ، وَأَمْثَالُهُمْ، فَلَا تَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ مِنَ الدُّخُولِ مَعَ الْإِذْنِ لِغَيْرِ ذَلِكَ، وَإِلَّا لَمَا جَازَ لِأَحَدٍ أَنْ يَدْخُلَ بُيُوتَهُ بِإِذْنِهِ، لِغَيْرِ الطَّعَامِ، وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ فَالْمَلْزُومُ مِثْلُهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَكَانَتْ سِيرَةُ الْقَوْمِ إِذَا كَانَ لَهُمْ طَعَامُ وَلِيمَةٍ، أَوْ نَحْوُهُ أَنْ يُبَكِّرَ مَنْ شَاءَ إِلَى الدَّعْوَةِ يَنْتَظِرُونَ طَبْخَ الطَّعَامِ وَنُضْجَهُ، وَكَذَلِكَ إِذَا فَرَغُوا مِنْهُ جَلَسُوا كَذَلِكَ، فَنَهَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ ذَلِكَ فِي بَيْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَدَخَلَ فِي النَّهْيِ سَائِرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْتَزَمَ النَّاسُ أَدَبَ اللَّهِ لَهُمْ فِي ذَلِكَ فَمَنَعَهُمْ مِنَ الدُّخُولِ إِلَّا بِإِذْنٍ عِنْدَ الْأَكْلِ لَا قَبْلَهُ لِانْتِظَارِ نُضْجِ الطَّعَامِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ ذلِكُمْ إِلَى الِانْتِظَارِ، وَالِاسْتِئْنَاسِ لِلْحَدِيثِ، وَأُشِيرَ إِلَيْهِمَا بِمَا يُشَارُ بِهِ إِلَى الْوَاحِدِ بِتَأْوِيلِهِمَا بِالْمَذْكُورِ كما في قوله: عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ «١» أَيْ: إِنَّ ذَلِكَ الْمَذْكُورَ مِنَ الْأَمْرَيْنِ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُضَيِّقُونَ الْمَنْزِلَ عَلَيْهِ، وَعَلَى أَهْلِهِ، وَيَتَحَدَّثُونَ بِمَا لَا يُرِيدُهُ. قَالَ الزجاج: كان النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ يَحْتَمِلُ إِطَالَتَهُمْ كَرَمًا مِنْهُ فَيَصْبِرُ عَلَى الْأَذَى فِي ذَلِكَ، فَعَلَّمَ اللَّهُ مَنْ يَحْضُرُهُ الأدب فصار أَدَبًا لَهُمْ وَلِمَنْ بَعْدَهُمْ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ أَيْ يَسْتَحْيِي أَنْ يَقُولَ لَكُمْ: قُومُوا، أَوِ اخْرُجُوا وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ أَيْ: لَا يَتْرُكُ أَنْ يُبَيِّنَ لَكُمْ مَا هُوَ الْحَقُّ، وَلَا يَمْتَنِعُ مِنْ بَيَانِهِ، وَإِظْهَارِهِ وَالتَّعْبِيرِ عَنْهُ بعدم الاستحياء للمشاكلة. قرأ الجمهور «يستحيي» بيائين، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ أَنَّهُ قَرَأَ بِيَاءٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ يَقُولُونَ: اسْتَحَى يَسْتَحِي: مِثْلَ اسْتَقَى يَسْتَقِي، ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَدَبًا آخَرَ مُتَعَلِّقًا بِنِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً أَيْ: شَيْئًا يتمتع به، من الماعون وغيره فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَيْ: مِنْ وَرَاءِ سِتْرٍ بينكم وبينهنّ. والمتاع يطلق على


(١) . البقرة: ٦٨. [.....]

<<  <  ج: ص:  >  >>