للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا عِنْدَ الضَّعْفِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَنَعَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَدْعُوا الْكُفَّارَ إِلَى الصُّلْحِ وَأَمَرَهُمْ بِحَرْبِهِمْ حَتَّى يُسْلِمُوا. وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ وَتَدْعُوا بِتَشْدِيدِ الدَّالِ، مِنِ ادَّعَى الْقَوْمُ وَتَدَاعَوْا.

قَالَ قَتَادَةُ: مَعْنَى الْآيَةِ: لَا تَكُونُوا أَوَّلَ الطَّائِفَتَيْنِ ضَرَعَتْ إِلَى صَاحِبَتِهَا.

وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هَلْ هِيَ مُحْكَمَةٌ أَوْ مَنْسُوخَةٌ؟ فَقِيلَ: إِنَّهَا مُحْكَمَةٌ، وَإِنَّهَا نَاسِخَةٌ لِقَوْلِهِ:

وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَقِيلَ: مَنْسُوخَةٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ. وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّهُ لَا مُقْتَضَى لِلْقَوْلِ بِالنَّسْخِ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ نَهَى الْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَنْ أَنْ يَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ ابْتِدَاءً، وَلَمْ يَنْهَ عَنْ قَبُولِ السَّلْمِ إِذَا جَنَحَ إِلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ، فَالْآيَتَانِ محكمتان، ولم يتوارد عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ حَتَّى يُحْتَاجَ إِلَى دَعْوَى النَّسْخِ أَوِ التَّخْصِيصِ، وَجُمْلَةُ: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَوْ مُسْتَأْنَفَةٌ مُقَرِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا مِنَ النَّهْيِ، أَيْ: وَأَنْتُمُ الْغَالِبُونَ بِالسَّيْفِ وَالْحُجَّةِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: أَيْ آخِرُ الْأَمْرِ لَكُمْ وَإِنْ غَلَبُوكُمْ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، وَكَذَا جُمْلَةُ قَوْلِهِ:

وَاللَّهُ مَعَكُمْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: مَعَكُمْ بِالنَّصْرِ وَالْمَعُونَةِ عَلَيْهِمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ أَيْ: لَنْ يَنْقُصَكُمْ شَيْئًا من ثواب أعمالكم، يقال: وتره يتره وَتْرًا إِذَا نَقَصَهُ حَقَّهُ. وَأَصْلُهُ مِنْ وَتَرْتُ الرَّجُلَ:

إِذَا قَتَلْتُ لَهُ قَرِيبًا، أَوْ نَهَبْتُ له مالا، ويقال: فلان موتور: إِذَا قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ وَلَمْ يُؤْخَذْ بِدَمِهِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ:

أَيْ لَنْ يَنْقُصَكُمْ فِي أَعْمَالِكُمْ، كَمَا تَقُولُ: دَخَلْتُ الْبَيْتَ وَأَنْتَ تُرِيدُ فِي الْبَيْتِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْوَتْرِ وهو الذّحل «١» ، وَقِيلَ: مُشْتَقٌّ مِنَ الْوَتْرِ وَهُوَ الْفَرْدُ، فَكَأَنَّ الْمَعْنَى: وَلَنْ يُفْرِدَكُمْ بِغَيْرِ ثَوَابٍ إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ أَيْ: بَاطِلٌ وَغُرُورٌ، لَا أَصْلَ لِشَيْءٍ مِنْهَا وَلَا ثَبَاتَ لَهُ وَلَا اعْتِدَادَ بِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ أي: إن تؤمنوا وَتَتَّقُوا الْكُفْرَ وَالْمَعَاصِيَ يُؤْتِكُمْ جَزَاءَ ذَلِكَ فِي الآخرة، والأجر:

الثواب على الطاعة وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ أَيْ: لَا يَأْمُرُكُمْ بِإِخْرَاجِهَا جَمِيعِهَا فِي الزَّكَاةِ وَسَائِرِ وُجُوهِ الطَّاعَاتِ، بَلْ أَمَرَكُمْ بِإِخْرَاجِ الْقَلِيلِ مِنْهَا وَهُوَ الزَّكَاةُ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: لَا يَسْأَلُكُمْ أَمْوَالَكُمْ إِنَّمَا يَسْأَلُكُمْ أَمْوَالَهُ لِأَنَّهُ أَمْلَكُ لَهَا، وَهُوَ الْمُنْعِمُ عَلَيْكُمْ بِإِعْطَائِهَا. وَقِيلَ: لَا يَسْأَلُكُمْ أَمْوَالَكُمْ أَجْرًا عَلَى تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ، كَمَا في قوله:

ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ والأوّل أولى إِنْ يَسْئَلْكُمُوها أَيْ: أَمْوَالَكُمْ كُلَّهَا فَيُحْفِكُمْ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: يُجْهِدُكُمْ وَيُلْحِفُ عَلَيْكُمْ بِمَسْأَلَةِ جَمِيعِهَا، يُقَالُ: أَحْفَى بِالْمَسْأَلَةِ وألحف وألحّ بمعنى واحد، والحفي:

الْمُسْتَقْصِي فِي السُّؤَالِ، وَالْإِحْفَاءُ: الِاسْتِقْصَاءُ فِي الْكَلَامِ، وَمِنْهُ إِحْفَاءُ الشَّارِبِ، أَيِ: اسْتِئْصَالُهُ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ قَوْلُهُ: تَبْخَلُوا أَيْ: إِنْ يَأْمُرْكُمْ بِإِخْرَاجِ جَمِيعِ أَمْوَالِكُمْ تَبْخَلُوا بِهَا وَتَمْتَنِعُوا مِنَ الِامْتِثَالِ وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ مَعْطُوفٌ عَلَى جَوَابِ الشَّرْطِ، وَلِهَذَا قَرَأَ الْجُمْهُورُ يُخْرِجْ بِالْجَزْمِ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو أَنَّهُ قَرَأَ بِالرَّفْعِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَرَأَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الرَّاءِ وَرَفْعِ أَضْغَانُكُمْ، وَرُوِيَ عَنْ يَعْقُوبَ الْحَضْرَمِيِّ أَنَّهُ قَرَأَ بِالنُّونِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَحُمَيْدٌ بِالْفَوْقِيَّةِ الْمَفْتُوحَةِ مَعَ ضَمِّ الرَّاءِ. وَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ فَالْفَاعِلُ ضَمِيرٌ يَعُودُ إِلَى اللَّهِ سبحانه، أو إلى البخل المدلول عليه بتبخلوا. والأضغان: الأحقاد،


(١) . «الذّحل» : الحقد والعداوة والثأر.

<<  <  ج: ص:  >  >>