للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى هُمَا آدَمُ وَحَوَّاءُ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ مُتَسَاوُونَ لِاتِّصَالِهِمْ بِنَسَبٍ وَاحِدٍ، وَكَوْنِهِ يَجْمَعُهُمْ أَبٌ وَاحِدٌ وَأُمٌّ وَاحِدَةٌ، وَأَنَّهُ لَا مَوْضِعَ لِلتَّفَاخُرِ بَيْنَهُمْ بِالْأَنْسَابِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى:

أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مِنْ أَبٍ وَأُمٍّ، فَالْكُلُّ سَوَاءٌ وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ الشُّعُوبُ جَمْعُ شَعْبٍ بِفَتْحِ الشِّينِ، وَهُوَ الْحَيُّ الْعَظِيمُ، مِثْلُ مُضَرَ وَرَبِيعَةَ، وَالْقَبَائِلُ دُونَهَا كَبَنِي بَكْرٍ مِنْ رَبِيعَةَ، وَبَنِي تَمِيمٍ مِنْ مُضَرَ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ:

هَذَا قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، سُمُّوا شَعْبًا لِتَشَعُّبِهِمْ وَاجْتِمَاعِهِمْ كَشُعَبِ أَغْصَانِ الشَّجَرَةِ، وَالشَّعْبُ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَضْدَادِ. يُقَالُ شَعَبْتُهُ: إِذَا جَمَعْتَهُ، وَشَعَبْتُهُ إِذَا فَرَّقْتَهُ، وَمِنْهُ سُمِّيَتِ الْمَنِيَّةُ شَعُوبًا لِأَنَّهَا مُفَرِّقَةٌ، فَأَمَّا الشِّعْبُ بِالْكَسْرِ فَهُوَ الطَّرِيقُ فِي الْجَبَلِ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الشَّعْبُ مَا تَشَعَّبَ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، وَالْجَمْعُ الشُّعُوبُ.

وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الشُّعُوبُ: الْبَعِيدُ مِنَ النَّسَبِ، وَالْقَبَائِلُ دُونَ ذَلِكَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الشُّعُوبُ: النَّسَبُ الأقرب.

وَقِيلَ: إِنَّ الشُّعُوبَ: عَرَبُ الْيَمَنِ مِنْ قَحْطَانَ، وَالْقَبَائِلَ مِنْ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ وَسَائِرِ عَدْنَانَ. وَقِيلَ: الشُّعُوبُ بُطُونُ الْعَجَمِ، وَالْقَبَائِلُ بُطُونِ الْعَرَبِ. وَحَكَى أبو عبيدة أَنَّ الشَّعْبَ أَكْثَرُ مِنَ الْقَبِيلَةِ، ثُمَّ الْقَبِيلَةُ ثُمَّ الْعِمَارَةُ ثُمَّ الْبَطْنُ ثُمَّ الْفَخِذُ ثُمَّ الْفَصِيلَةُ ثُمَّ الْعَشِيرَةُ. وَمِمَّا يُؤَيِّدُ مَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ مِنْ أَنَّ الشَّعْبَ أَكْثَرُ مِنَ الْقَبِيلَةِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

قَبَائِلُ مِنْ شُعُوبٍ لَيْسَ فِيهِمْ ... كَرِيمٌ قَدْ يُعَدُّ وَلَا نَجِيبُ

قَرَأَ الْجُمْهُورُ: لِتَعارَفُوا بِتَخْفِيفِ التَّاءِ، وَأَصْلُهُ لِتَتَعَارَفُوا فَحُذِفَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ. وَقَرَأَ الْبَزِّيُّ بِتَشْدِيدِهَا عَلَى الْإِدْغَامِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ بِتَاءَيْنِ، وَاللَّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِخَلَقْنَاكُمْ، أَيْ: خَلَقْنَاكُمْ كَذَلِكَ لِيَعْرِفَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «لِتَعْرِفُوا» مُضَارِعَ عَرَفَ. وَالْفَائِدَةُ فِي التَّعَارُفِ أَنْ يَنْتَسِبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِلَى نَسَبِهِ وَلَا يَعْتَرِي إِلَى غَيْرِهِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَلَقَهُمْ كَذَلِكَ لِهَذِهِ الْفَائِدَةِ لَا لِلتَّفَاخُرِ بِأَنْسَابِهِمْ، وَدَعْوَى أَنَّ هَذَا الشَّعْبَ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا الشَّعْبِ، وَهَذِهِ الْقَبِيلَةَ أَكْرَمُ مِنْ هَذِهِ الْقَبِيلَةِ، وَهَذَا الْبَطْنَ أَشْرَفُ مِنْ هَذَا الْبَطْنِ. ثُمَّ عَلَّلَ سُبْحَانَهُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ مِنَ النَّهْيِ عَنِ التَّفَاخُرِ فَقَالَ: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ أَيْ: إِنَّ التَّفَاضُلَ بَيْنَكُمْ إِنَّمَا هُوَ بِالتَّقْوَى، فَمَنْ تَلَبَّسَ بِهَا فَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِأَنْ يَكُونَ أَكْرَمَ مِمَّنْ لَمْ يَتَلَبَّسْ بِهَا وَأَشْرَفَ وَأَفْضَلَ، فَدَعُوا مَا أَنْتُمْ فِيهِ مِنَ التَّفَاخُرِ بِالْأَنْسَابِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُوجِبُ كَرَمًا وَلَا يُثْبِتُ شَرَفًا وَلَا يَقْتَضِي فَضْلًا.

قَرَأَ الْجُمْهُورُ: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ بِكَسْرِ إِنَّ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِفَتْحِهَا، أَيْ: لِأَنَّ أَكْرَمَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِكُلِّ مَعْلُومٍ وَمِنْ ذَلِكَ أَعْمَالُكُمْ خَبِيرٌ بِمَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ خَافِيَةٌ. وَلَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ أَكْرَمَ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاهُمْ لَهُ، وَكَانَ أَصْلُ التَّقْوَى الْإِيمَانَ ذَكَرَ مَا كَانَتْ تَقُولُهُ الْعَرَبُ مِنْ دَعْوَى الْإِيمَانِ لِيُثْبِتَ لَهُمُ الشَّرَفَ وَالْفَضْلَ، فَقَالَ: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا وَهُمْ بَنُو أَسَدٍ أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ فِي سَنَةٍ مُجْدِبَةٍ يُرِيدُونَ الصَّدَقَةَ، فَأَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا أَيْ: لَمْ تُصَدِّقُوا تَصْدِيقًا صَحِيحًا عَنِ اعْتِقَادِ قَلْبٍ وَخُلُوصِ نِيَّةٍ وَطُمَأْنِينَةٍ وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا أَيِ: اسْتَسْلَمْنَا خَوْفَ

<<  <  ج: ص:  >  >>