للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَلَمْ يَأْنِ لِي يَا قَلْبُ أَنْ أَتْرُكَ الْجَهْلَا ... وَأَنْ يُحْدِثَ الشَّيْبُ الْمُنِيرُ لَنَا عَقْلَا

هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ الْحَسَنُ: يَسْتَبْطِئُهُمْ وَهُمْ أَحَبُّ خَلْقِهِ إِلَيْهِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْخِطَابَ لِمَنْ آمَنَ بِمُوسَى وَعِيسَى دُونَ مُحَمَّدٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ: نَزَلَتْ فِي طَائِفَةٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، حُثُّوا عَلَى الرِّقَّةِ وَالْخُشُوعِ، فَأَمَّا مَنْ وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِالرِّقَّةِ وَالْخُشُوعِ فَطَبَقَةٌ فَوْقَ هَؤُلَاءِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ: الْمَعْنَى أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينِ آمَنُوا فِي الظَّاهِرِ وَأَسَرُّوا الْكُفْرَ أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَسَيَأْتِي فِي آخِرِ الْبَحْثِ مَا يُقَوِّي قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمُسْلِمِينَ، وَالْخُشُوعُ: لِينُ الْقَلْبِ وَرِقَّتُهُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُورِثَهُمُ الذِّكْرُ خُشُوعًا وَرِقَّةً، وَلَا يَكُونُوا كَمَنْ لَا يَلِينُ قَلْبُهُ لِلذِّكْرِ وَلَا يَخْشَعُ لَهُ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ مَعْطُوفٌ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ، وَالْمُرَادُ بِمَا نَزَلَ مِنَ الحق القرآن، فيحمل الذكر المعطوف عليه مَا عَدَاهُ مِمَّا فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِاللِّسَانِ، أَوْ خُطُورٍ بِالْقَلْبِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالذِّكْرِ هُوَ الْقُرْآنُ، فَيَكُونُ هَذَا الْعَطْفُ مِنْ بَابِ عطف التفسير، أو باعتبار تغاير الْمَفْهُومَيْنِ.

قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «نَزَلَ» مُشَدَّدًا مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَحَفْصٌ بِالتَّخْفِيفِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. وَقَرَأَ الجحدري وأبو جعفر والأعمش وأبو عمرو وفي رواية عنه مشدّد مبنيا للمفعول. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ «أُنْزِلَ» مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالتَّحْتِيَّةِ عَلَى الْغَيْبَةِ جَرْيًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ بالفوقية على الحساب الْتِفَاتًا، وَبِهَا قَرَأَ عِيسَى وَابْنُ إِسْحَاقَ، وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى «تَخْشَعَ» أَيْ: أَلَمْ يَأْنِ لَهُمْ أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ وَلَا يَكُونُوا، وَالْمَعْنَى: النَّهْيُ لَهُمْ عَنْ أَنْ يَسْلُكُوا سَبِيلَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ أُوتُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلِ نُزُولِ الْقُرْآنِ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ أَيْ: طَالَ عَلَيْهِمُ الزَّمَانُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَنْبِيَائِهِمْ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «الْأَمَدُ» بِتَخْفِيفِ الدَّالِّ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ بِتَشْدِيدِهَا، أَيِ:

الزَّمَنُ الطَّوِيلُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْأَمَدِ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى الْأَجَلُ وَالْغَايَةُ، يُقَالُ: أَمَدُ فُلَانٍ كَذَا، أَيْ: غَايَتُهُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ بِذَلِكَ السَّبَبِ، فَلِذَلِكَ حَرَّفُوا وَبَدَّلُوا، فَنَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَكُونُوا مِثْلَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ أَيْ: خَارِجُونَ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ لِأَنَّهُمْ تَرَكُوا الْعَمَلَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ، وَحَرَّفُوا وَبَدَّلُوا وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيلَ: هُمُ الَّذِينَ تَرَكُوا الْإِيمَانَ بِعِيسَى وَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيلَ: هُمُ الَّذِينَ ابْتَدَعُوا الرَّهْبَانِيَّةَ، وَهُمْ أَصْحَابُ الصَّوَامِعِ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ الْأَجْسَامَ بَعْدَ مَوْتِهَا، وَيُلِينُ الْقُلُوبَ بَعْدَ قَسْوَتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا هَذِهِ الْآيَاتُ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أَيْ: كَيْ تَعْقِلُوا مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ الْمَوَاعِظِ وَتَعْمَلُوا بِمُوجَبِ ذَلِكَ إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِتَشْدِيدِ الصَّادِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مِنَ الصَّدَقَةِ، وَأَصْلُهُ الْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ، فَأُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الصَّادِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ: «الْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ» بِإِثْبَاتِ التَّاءِ عَلَى الْأَصْلِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ بِتَخْفِيفِ الصَّادِ فِيهِمَا مِنَ التَّصْدِيقِ، أَيْ: صَدَّقُوا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا جَاءَ بِهِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً مَعْطُوفٌ عَلَى اسْمِ الْفَاعِلِ فِي الْمُصَّدِّقِينَ لِأَنَّهُ لَمَّا وَقَعَ صِلَةً لِلْأَلِفِ وَاللَّامِ الْمَوْصُولَةِ حَلَّ مَحَلَّ الْفِعْلِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ:

إِنَّ الَّذِينَ تَصَدَّقُوا وَأَقْرَضُوا، كَذَا قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ وَغَيْرُهُ. وَقِيلَ: جُمْلَةُ وَأَقْرَضُوا مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ اسْمِ إِنَّ وَخَبَرِهَا، وَهُوَ يُضاعَفُ. وَقِيلَ: هِيَ صِلَةٌ لِمَوْصُولٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: وَالَّذِينَ أَقْرَضُوا، وَالْقَرْضُ

<<  <  ج: ص:  >  >>