للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

شَوْكَتِهِمْ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى: فَصَدُّوا الْمُسْلِمِينَ عَنْ قِتَالِهِمْ بِسَبَبِ إِظْهَارِهِمْ لِلْإِسْلَامِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ أَيْ:

يُهِينُهُمْ وَيُخْزِيهِمْ، قِيلَ: هُوَ تَكْرِيرٌ لِقَوْلِهِ: أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً لِلتَّأْكِيدِ، وَقِيلَ: الْأَوَّلُ عَذَابُ الْقَبْرِ، وَهَذَا عَذَابُ الْآخِرَةِ، وَلَا وَجْهَ للقول بالتكرار، فَإِنَّ الْعَذَابَ الْمَوْصُوفَ بِالشِّدَّةِ غَيْرُ الْعَذَابِ الْمَوْصُوفِ بِالْإِهَانَةِ لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أَيْ: لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهِ شَيْئًا مِنَ الْإِغْنَاءِ.

قَالَ مُقَاتِلٌ: قَالَ الْمُنَافِقُونَ: إِنَّ مُحَمَّدًا يَزْعُمُ أَنَّهُ يُنْصَرُ يوم القيامة لقد شقينا إذا! فو الله لَنُنْصَرَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَنْفُسِنَا وَأَمْوَالِنَا وَأَوْلَادِنَا إِنْ كانت قيامة، فنزلت الآية أُولئِكَ الموصوف بِمَا ذُكِرَ أَصْحابُ النَّارِ لَا يُفَارِقُونَهَا هُمْ فِيها خالِدُونَ لَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً الظَّرْفُ مَنْصُوبٌ بِقَوْلِهِ: مُهِينٌ، أَوْ بِمُقَدَّرٍ، أَيِ: اذْكُرْ فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ أي: يحلفون الله يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى الْكَذِبِ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ فِي الدُّنْيَا، وَهَذَا مِنْ شِدَّةِ شَقَاوَتِهِمْ وَمَزِيدِ الطَّبْعِ عَلَى قُلُوبِهِمْ، فَإِنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَدِ انْكَشَفَتِ الْحَقَائِقُ وَصَارَتِ الْأُمُورُ مَعْلُومَةً بِضَرُورَةِ الْمُشَاهَدَةِ، فكيف يجترءون عَلَى أَنْ يَكْذِبُوا فِي ذَلِكَ الْمَوْقِفِ، وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَيْ: يَحْسَبُونَ فِي الْآخِرَةِ أَنَّهُمْ بِتِلْكَ الْأَيْمَانِ الْكَاذِبَةِ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا يَجْلِبُ نَفْعًا، أَوْ يَدْفَعُ ضَرَرًا، كَمَا كَانُوا يَحْسَبُونَ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ أَيِ: الْكَامِلُونَ فِي الْكَذِبِ، الْمُتَهَالِكُونَ عَلَيْهِ، الْبَالِغُونَ فِيهِ إِلَى حَدٍّ لَمْ يَبْلُغْ غَيْرَهُمْ إِلَيْهِ بِإِقْدَامِهِمْ عَلَيْهِ وَعَلَى الْأَيْمَانِ الْفَاجِرَةِ فِي مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ بَيْنَ يَدَيِ الرَّحْمَنِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ أَيْ: غَلَبَ عَلَيْهِمْ وَاسْتَعْلَى وَاسْتَوْلَى. قَالَ الْمُبَرِّدُ: اسْتَحْوَذَ عَلَى الشَّيْءِ: حَوَاهُ وَأَحَاطَ بِهِ، وَقِيلَ: قَوِيَ عَلَيْهِمْ، وَقِيلَ: جَمَعَهُمْ، يُقَالُ: أَحْوَذَ الشَّيْءَ، أَيْ: جَمَعَهُ وَضَمَّ بَعْضَهُ إِلَى بَعْضٍ، وَالْمَعَانِي مُتَقَارِبَةٌ لِأَنَّهُ إِذَا جَمَعَهُمْ فَقَدْ قَوِيَ عَلَيْهِمْ وَغَلَبَهُمْ وَاسْتَعْلَى عَلَيْهِمْ وَاسْتَوْلَى وَأَحَاطَ بِهِمْ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أَيْ: أَوَامِرَهُ وَالْعَمَلَ بِطَاعَتِهِ، فَلَمْ يَذْكُرُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. وَقِيلَ: زَوَاجِرَهُ فِي النَّهْيِ عَنْ مَعَاصِيهِ، وَقِيلَ: لَمْ يَذْكُرُوهُ بِقُلُوبِهِمْ وَلَا بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ إِلَى الْمَذْكُورِينَ الْمَوْصُوفِينَ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَيْ: جُنُودُهُ وَأَتْبَاعُهُ وَرَهْطُهُ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ أَيِ: الْكَامِلُونَ فِي الْخُسْرَانِ، حَتَّى كَأَنَّ خُسْرَانَ غَيْرِهِمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى خُسْرَانِهِمْ لَيْسَ بِخُسْرَانٍ لِأَنَّهُمْ بَاعُوا الْجَنَّةَ وَالْهُدَى بِالضَّلَالَةِ، وَكَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وَعَلَى نَبِيِّهِ، وَحَلَفُوا الْأَيْمَانَ الْفَاجِرَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ تَقَدَّمَ مَعْنَى الْمُحَادَّةِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَالْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ أَيْ: أُولَئِكَ الْمُحَادُّونَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، الْمُتَّصِفُونَ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ، مِنْ جُمْلَةِ مَنْ أذلّه الله من الأمم السابقة واللاحقة لأنهم لَمَّا حَادُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ صَارُوا مِنَ الذُّلِّ بِهَذَا الْمَكَانِ.

قَالَ عَطَاءٌ: يُرِيدُ الذُّلَّ فِي الدُّنْيَا وَالْخِزْيَ فِي الْآخِرَةِ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِتَقْرِيرِ مَا قَبْلَهَا مَعَ كَوْنِهِمْ فِي الْأَذَلِّينَ، أَيْ: كَتَبَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَقَضَى فِي سَابِقِ عِلْمِهِ: لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي بِالْحُجَّةِ وَالسَّيْفِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى غَلَبَةِ الرُّسُلِ عَلَى نَوْعَيْنِ: مَنْ بُعِثَ مِنْهُمْ بِالْحَرْبِ فَهُوَ غَالِبٌ فِي الْحَرْبِ، وَمَنْ بُعِثَ مِنْهُمْ بِغَيْرِ الْحَرْبِ فَهُوَ غَالِبٌ بِالْحُجَّةِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: كَتَبَ بِمَعْنَى قَالَ، وَقَوْلُهُ: «أَنَا» تَوْكِيدٌ، ثُمَّ ذَكَرَ مِثْلَ قَوْلِ الزَّجَّاجِ. إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ فَهُوَ قَوِيٌّ عَلَى نَصْرِ أَوْلِيَائِهِ، غَالِبٌ لِأَعْدَائِهِ، لَا يَغْلِبُهُ أَحَدٌ

<<  <  ج: ص:  >  >>