للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يَعْنِي كُفَّارَ مَكَّةَ وَمَنْ هُوَ مُوَافِقٌ لَهُمْ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يُحِبُّونَ الدَّارَ الْعَاجِلَةَ، وَهِيَ دَارُ الدُّنْيَا وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا أَيْ: يَتْرُكُونَ وَيَدَعُونَ وَرَاءَهُمْ، أَيْ: خَلْفَهُمْ أَوْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَأَمَامَهُمْ يَوْمًا شَدِيدًا عَسِيرًا، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَسُمِّيَ ثَقِيلًا لِمَا فِيهِ مِنَ الشَّدَائِدِ وَالْأَهْوَالِ. ومعنى كونه يَذَرُونَهُ وَرَاءَهُمْ: أَنَّهُمْ لَا يَسْتَعِدُّونَ لَهُ وَلَا يَعْبَئُونَ بِهِ، فَهُمْ كَمَنَ يَنْبِذُ الشَّيْءَ وَرَاءَ ظَهْرِهِ تَهَاوُنًا بِهِ وَاسْتِخْفَافًا بِشَأْنِهِ، وَإِنْ كَانُوا فِي الْحَقِيقَةِ مُسْتَقْبِلِينَ لَهُ وَهُوَ أَمَامَهُمْ نَحْنُ خَلَقْناهُمْ أَيِ: ابْتَدَأْنَا خَلْقَهُمْ مِنْ تُرَابٍ، ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ، ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ إِلَى أَنْ كَمُلَ خَلْقَهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ لِغَيْرِنَا فِي ذَلِكَ عَمَلٌ وَلَا سَعْيٌ لَا اشْتِرَاكًا وَلَا اسْتِقْلَالًا وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ الْأَسْرُ: شِدَّةُ الْخَلْقِ، يُقَالُ: شَدَّ اللَّهُ أَسْرَ فُلَانٍ: أَيْ قَوَّى خَلْقَهُ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ وَغَيْرُهُمْ: شَدَدْنَا خَلْقَهُمْ. قَالَ الْحَسَنُ: شَدَدْنَا أَوْصَالَهُمْ بَعْضًا إِلَى بَعْضٍ بِالْعُرُوقِ وَالْعَصَبِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: يُقَالُ فَرَسٌ شَدِيدُ الْأَسْرِ، أَيِ: الْخَلْقِ. قَالَ لَبِيدٌ:

سَاهِمُ الْوَجْهِ شَدِيدٌ أَسْرُهُ ... مُشْرِفُ الْحَارِكِ محبوك الكتد

وَقَالَ الْأَخْطَلُ:

مِنْ كُلِّ مُجْتَنِبٍ شَدِيدٍ أَسْرُهُ ... سَلِسِ الْقِيَادِ تَخَالُهُ مُخْتَالَا

وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْأُسَرُ الْقُوَّةُ، وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الْإِسَارِ، وَهُوَ الْقَدُّ الَّذِي تُشَدُّ بِهِ الْأَقْتَابُ. وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنُ أحمر يصف فرسا:

يمشي بأوظفة شداد أسرها ... صمّ السّنابك لا تقي بِالْجُدْجُدِ «١»

وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلًا أَيْ: لَوْ شِئْنَا لَأَهْلَكْنَاهُمْ وَجِئْنَا بِأَطْوَعَ لِلَّهِ مِنْهُمْ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى:

مَسَخْنَاهُمْ إِلَى أَسْمَجِ صُورَةٍ وَأَقْبَحِ خِلْقَةٍ إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ يَعْنِي إِنَّ هَذِهِ السُّورَةَ تَذْكِيرٌ وَمَوْعِظَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا أي: طريقا يتوصّل بِهِ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ بِالْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ، وَالْمُرَادُ: إِلَى ثوابه أو إلى جنّته وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ أي: وما تشاؤون أَنْ تَتَّخِذُوا إِلَى اللَّهِ سَبِيلًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، فَالْأَمْرُ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ لَيْسَ إِلَيْهِمْ، وَالْخَيْرُ وَالشَّرُّ بِيَدِهِ، لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَى، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعَ، فَمَشِيئَةُ الْعَبْدِ مُجَرَّدَةٌ لَا تَأْتِي بِخَيْرٍ وَلَا تَدْفَعُ شَرًّا، وَإِنْ كَانَ يُثَابُ عَلَى الْمَشِيئَةِ الصَّالِحَةِ، وَيُؤْجَرُ عَلَى قَصْدِ الْخَيْرِ كَمَا فِي حَدِيثِ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» . قَالَ الزجاج: أي لستم تشاؤون إِلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، أَيْ: بَلِيغُ الْعَلَمِ وَالْحِكْمَةِ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ أَيْ: يُدْخِلُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ أَنْ يُدْخِلَهُ فِيهَا، أَوْ يُدْخِلُ فِي جَنَّتِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ. قَالَ عَطَاءٌ: مَنْ صَدَقَتْ نِيَّتُهُ أَدْخَلَهُ جَنَّتَهُ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً انْتِصَابُ الظَّالِمِينَ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ، أَيْ: يُعَذِّبُ الظَّالِمِينَ، نُصِبَ الظَّالِمِينَ لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ مَنْصُوبٌ، أَيْ: يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ في رحمته ويعذب الظالمين، أي: المشركين،


(١) . «الجدجد» : الأرض الصلبة.

<<  <  ج: ص:  >  >>