للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي الْكُفَّارَ لِأَنَّهُمْ تَكَبَّرُوا عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ. قَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ: خَاشِعَةٌ فِي النَّارِ، وَقِيلَ: أَرَادَ وُجُوهَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى عَلَى الْخُصُوصِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. قَوْلُهُ: عامِلَةٌ ناصِبَةٌ مَعْنَى عَامِلَةٍ أَنَّهَا تَعْمَلُ عَمَلًا شَاقًّا. قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: يُقَالُ لِلرَّجُلِ إِذَا دَأَبَ فِي سَيْرِهِ: عَمِلَ يَعْمَلُ عَمَلًا، وَيُقَالُ لِلسَّحَابِ إِذَا دَامَ بَرْقُةُ:

قَدْ عَمِلَ يَعْمَلُ عَمَلًا. قِيلَ: وَهَذَا الْعَمَلُ هُوَ جَرُّ السَّلَاسِلِ وَالْأَغْلَالِ وَالْخَوْضُ فِي النَّارِ. ناصِبَةٌ أَيْ:

تَعِبَةٌ، يُقَالُ: نَصِبَ بِالْكَسْرِ يَنْصَبُ نَصَبًا إِذَا تَعِبَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا فِي الْآخِرَةِ تَعِبَةٌ لِمَا تُلَاقِيهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ.

وَقِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ: عامِلَةٌ فِي الدُّنْيَا إِذْ لَا عَمَلَ فِي الْآخِرَةِ، أَيْ: تَعْمَلُ فِي الدُّنْيَا بِالْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، وَتَنْصَبُ فِي ذَلِكَ. وَقِيلَ: إِنَّهَا عَامِلَةٌ فِي الدُّنْيَا نَاصِبَةٌ فِي الْآخِرَةِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. قَالَ قَتَادَةُ: عامِلَةٌ ناصِبَةٌ تَكَبَّرَتْ فِي الدُّنْيَا عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ فَأَعْمَلَهَا اللَّهُ، وَأَنْصَبَهَا فِي النَّارِ بِجَرِّ السَّلَاسِلِ الثِّقَالِ وَحَمْلِ الْأَغْلَالِ وَالْوُقُوفِ حُفَاةً عُرَاةً فِي الْعَرَصَاتِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ «١» قَالَ الْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: لَمْ تَعْمَلْ لِلَّهِ فِي الدُّنْيَا وَلَمْ تَنْصَبْ فَأَعْمَلَهَا وَأَنْصَبَهَا فِي جَهَنَّمَ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: يُجَرُّونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ فِي النَّارِ. وَقَالَ أَيْضًا:

يُكَلَّفُونَ ارْتِقَاءَ جَبَلٍ مِنْ حَدِيدٍ فِي جَهَنَّمَ، فَيَنْصَبُونَ فِيهَا أَشَدَّ مَا يَكُونُ مِنَ النَّصَبِ بِمُعَالَجَةِ السَّلَاسِلِ وَالْأَغْلَالِ والخوض في النار كما تخوض فِي الْوَحْلِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: عامِلَةٌ ناصِبَةٌ بِالرَّفْعِ فِيهِمَا عَلَى أَنَّهُمَا خَبَرَانِ آخَرَانِ لِلْمُبْتَدَأِ، أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ مُبْتَدَأٍ، وَهُمَا خَبَرَانِ لَهُ، وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصَنٍ وَعِيسَى وَحُمَيْدٌ وَابْنُ كَثِيرٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ بِنَصْبِهِمَا عَلَى الْحَالِ أَوْ عَلَى الذَّمِّ. وَقَوْلُهُ: تَصْلى نَارًا حامِيَةً خَبَرٌ آخَرُ لِلْمُبْتَدَأِ، أَيْ: تَدْخُلُ نَارًا مُتَنَاهِيَةً فِي الْحَرِّ، يُقَالُ: حَمِيَ النَّهَارُ وَحَمِيَ التَّنُّورُ، أَيِ: اشْتَدَّ حَرُّهُمَا. قَالَ الْكِسَائِيُّ: يُقَالُ: اشْتَدَّ حَمْيُ النَّهَارِ وَحَمْوُهُ بِمَعْنًى.

قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «تَصْلَى» بِفَتْحِ التَّاءِ مبنيا للفاعل. وقرأ أبو عمرة ويعقوب وأبو بكر بضمها مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ.

وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الصَّادِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ، وَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْوُجُوهِ عَلَى جَمِيعِ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ، وَالْمُرَادُ أَصْحَابُهَا كَمَا تَقَدَّمَ، وَهَكَذَا الضَّمِيرُ تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ وَالْمُرَادُ بِالْعَيْنِ الْآنِيَةِ: الْمُتَنَاهِيَةُ فِي الْحَرِّ، وَالْآنِيُّ: الَّذِي قَدِ انْتَهَى حَرُّهُ، مِنَ الْإِينَاءِ «٢» بِمَعْنَى التَّأَخُّرِ، يُقَالُ: آنَاهُ يُؤْنِيهَ إِينَاءً، أَيْ: أَخَّرَهُ وَحَبَسَهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ «٣» قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لَوْ وَقَعَتْ مِنْهَا نقطة عَلَى جِبَالِ الدُّنْيَا لَذَابَتْ. وَلَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ شَرَابَهُمْ عَقَّبَهُ بِذِكْرِ طَعَامِهِمْ فَقَالَ: لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ

هُوَ نَوْعٌ مِنَ الشَّوْكِ يُقَالُ لَهُ الشِّبْرِقُ فِي لِسَانِ قُرَيْشٍ إِذَا كَانَ رَطْبًا، فَإِذَا يَبِسَ فَهُوَ الضَّرِيعُ. كَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. قِيلَ: وَهُوَ سُمٌّ قَاتِلٌ، وَإِذَا يَبِسَ لَا تَقْرَبُهُ دَابَّةٌ وَلَا تَرْعَاهُ، وَقِيلَ: هُوَ شَيْءٌ يَرْمِي بِهِ الْبَحْرُ يُسَمَّى الضَّرِيعَ مِنْ أَقْوَاتِ الْأَنْعَامِ، لَا مِنْ أَقْوَاتِ النَّاسِ، فَإِذَا رَعَتْ مِنْهُ الْإِبِلُ لَمْ تَشْبَعْ وَهَلَكَتْ هُزَالًا.

قَالَ الْخَلِيلُ: الضَّرِيعُ نَبَاتٌ أَخْضَرُ مُنْتِنُ الرِّيحِ يَرْمِي بِهِ الْبَحْرُ. وَجُمْهُورُ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالتَّفْسِيرِ قَالُوا: بالأوّل،


(١) . المعارج: ٤.
(٢) . الصواب أن يقول: من: أنى يأني، كرمى يرمي. وليس من الإيناء مصدر آنى بمعنى آخر.
(٣) . الرّحمن: ٤٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>