للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الدُّنْيَا حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: الْمَعْنَى لَمْ يَكُنْ أَهْلُ الْكِتَابِ تَارِكِينَ صِفَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بُعِثَ، فَلَمَّا بُعِثَ حَسَدُوهُ وَجَحَدُوهُ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ «١» وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَالْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ مَا كَانُوا يُسِيئُونَ الْقَوْلَ فِي مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بُعِثَ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَهُ الأمين، فلما بعث عادوه وأساؤوا الْقَوْلَ فِيهِ. وَقِيلَ: مُنْفَكِّينَ هَالِكِينَ، مِنْ قَوْلِهِمُ: انْفَكَّ صُلْبُهُ، أَيِ: انْفَصَلَ فَلَمْ يَلْتَئِمْ فَيَهْلِكُ، وَالْمَعْنَى: لَمْ يَكُونُوا مُعَذَّبِينَ وَلَا هَالِكِينَ إِلَّا بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، فَيَكُونُ وَصْفًا لَهُمْ لِأَنَّهُمْ قَالُوا: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ وَعُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَمَعْنَى الْآيَةِ إِخْبَارُ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ لَنْ يَنْتَهُوا عَنْ كُفْرِهِمْ وَشِرْكِهِمْ بِاللَّهِ حَتَّى أَتَاهُمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقُرْآنِ، فَبَيَّنَ لَهُمْ ضَلَالَتَهُمْ وَجَهَالَتَهُمْ وَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ، وَهَذَا بَيَانٌ عَنِ النِّعْمَةِ والانقياد به من الجهل والضلالة والآية فيمن آمَنَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ. قَالَ: وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَصْعَبِ مَا فِي الْقُرْآنِ نَظْمًا وَتَفْسِيرًا، وَقَدْ تَخَبَّطَ فِيهَا الْكِبَارُ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَسَلَكُوا فِي تَفْسِيرِهَا طُرُقًا لَا تُفْضِي بِهِمْ إِلَى الصَّوَابِ. وَالْوَجْهُ مَا أَخْبَرْتُكَ، فَاحْمَدِ اللَّهَ إِذْ أَتَاكَ بَيَانُهَا مِنْ غَيْرِ لَبْسٍ وَلَا إِشْكَالٍ. قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَيِّنَةَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ فَسَّرَهَا وَأُبْدِلَ مِنْهَا فَقَالَ: رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً يَعْنِي مَا تَتَضَمَّنُهُ الصُّحُفُ مِنَ الْمَكْتُوبِ فِيهَا، وَهُوَ الْقُرْآنُ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أنه كان يتلو على ظَهْرِ قَلْبِهِ، لَا عَنْ كِتَابٍ. انْتَهَى كَلَامُهُ. وَقِيلَ: إِنَّ الْآيَةَ حِكَايَةٌ لِمَا كَانَ يَقُولُهُ أَهْلُ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكُونَ إِنَّهُمْ لَا يُفَارِقُونَ دِينَهُمْ حَتَّى يُبْعَثَ النَّبِيُّ الْمَوْعُودُ بِهِ، فَلَمَّا بُعِثَ تَفَرَّقُوا كَمَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَالْبَيِّنَةُ عَلَى مَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ بَيِّنَةٌ وَحُجَّةٌ وَلِذَلِكَ سَمَّاهُ سِرَاجًا مُنِيرًا، وَقَدْ فَسَّرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ هَذِهِ الْبَيِّنَةَ الْمُجْمَلَةَ بِقَوْلِهِ: رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ فَاتَّضَحَ الْأَمْرُ وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ الْمُرَادُ بِالْبَيِّنَةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ: الْبَيِّنَةُ هِيَ الْقُرْآنُ كَقَوْلِهِ: أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولى «٢» وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الْمُرَادُ بِالْبَيِّنَةِ مُطْلَقُ الرُّسُلِ، وَالْمَعْنَى: حَتَّى تَأْتِيَهُمْ رُسُلٌ مِنَ اللَّهِ، وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ صُحُفًا مُطَهَّرَةً، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ» وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: «لَمْ يَكُنِ الْمُشْرِكُونَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ» قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهِيَ قِرَاءَةٌ فِي مَعْرِضِ الْبَيَانِ، لَا فِي مَعْرِضِ التِّلَاوَةِ، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَالنَّخَعِيُّ:

وَالْمُشْرِكُونَ بِالرَّفْعِ عطفا على الموصول. وقرأ أبيّ «فلما كَانَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكُونَ» قَرَأَ الْجُمْهُورُ: رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ بِرَفْعِ رَسُولٍ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ كُلٍّ مِنْ كُلٍّ مُبَالَغَةً، أَوْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ:

رَسُولٌ رُفِعَ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الْبَيِّنَةِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: رُفِعَ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مُضْمَرٍ، أَيْ: هِيَ رَسُولٌ أَوْ هُوَ رَسُولٌ.

وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ «رَسُولًا» بِالنَّصْبِ عَلَى الْقَطْعِ، وَقَوْلُهُ: مِنَ اللَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ هُوَ صِفَةٌ لِرَسُولٍ، أَيْ: كَائِنٌ مِنَ اللَّهِ، وَيَجُوزُ تَعَلُّقُهُ بِنَفْسِ رَسُولٍ، وَجَوَّزَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ صُحُفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً مُنَزَّلَةً مِنَ الله، وقوله: يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ صِفَةً أُخْرَى لرسول، أن حَالًا مِنْ مُتَعَلِّقِ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ قَبْلَهُ. وَمَعْنَى يَتْلُو: يَقْرَأُ، يُقَالُ: تَلَا يَتْلُو تِلَاوَةً، وَالصُّحُفُ:


(١) . البقرة: ٨٩. [.....]
(٢) . طه: ١٣٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>