للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أتاني وَدُونِي رَاكِسٌ فَالضَّوَاجِعُ «١»

وَقِيلَ: هُوَ الرَّحِمُ تَنْفَلِقُ بِالْحَيَوَانِ، وَقِيلَ: هُوَ كُلُّ مَا انْفَلَقَ عَنْ جَمِيعِ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنَ الْحَيَوَانِ وَالصُّبْحِ وَالْحَبِّ وَالنَّوَى، وَكُلِّ شَيْءٍ مِنْ نَبَاتٍ وَغَيْرِهِ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هَذَا الْقَوْلُ يَشْهَدُ لَهُ الِانْشِقَاقُ، فَإِنَّ الْفَلْقَ: الشَّقُّ، فَلَقْتُ الشَّيْءَ فَلْقًا: شَقَقْتُهُ، وَالتَّفْلِيقُ مِثْلُهُ، يُقَالُ: فَلَقْتُهُ فَانْفَلَقَ وَتَفَلَّقَ، فَكُلُّ مَا انْفَلَقَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ حَيَوَانٍ وَصُبْحٍ وَحَبٍّ وَنَوًى وَمَاءٍ فَهُوَ فلق. قال الله سبحانه: فالِقُ الْإِصْباحِ «٢» وقال: فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى «٣» انْتَهَى. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ الْمَعْنَى وَإِنْ كَانَ أَعَمَّ مِنْهُ وَأَوْسَعَ مِمَّا تَضَمَّنَهُ لَكِنَّهُ الْمُتَبَادَرُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ. وَقَدْ قِيلَ فِي وَجْهِ تَخْصِيصِ الْفَلَقِ: الْإِيمَاءُ إِلَى أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى إِزَالَةِ هَذِهِ الظُّلُمَاتِ الشَّدِيدَةِ عَنْ كُلِّ هَذَا الْعَالَمِ يَقْدِرُ أَيْضًا أَنْ يَدْفَعَ عَنِ الْعَائِذِ كُلَّ مَا يَخَافُهُ وَيَخْشَاهُ، وَقِيلَ: طُلُوعُ الصُّبْحِ كَالْمِثَالِ لِمَجِيءِ الْفَرَحِ فَكَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ فِي اللَّيْلِ يَكُونُ مُنْتَظِرًا لِطُلُوعِ الصَّبَاحِ، كَذَلِكَ الْخَائِفُ يَكُونُ مُتَرَقِّبًا لِطُلُوعِ صَبَاحِ النَّجَاحِ، وَقِيلَ: غَيْرُ هَذَا مِمَّا هُوَ مُجَرَّدُ بَيَانِ مُنَاسَبَةٍ لَيْسَ فِيهَا كَثِيرُ فَائِدَةٍ تَتَعَلَّقُ بِالتَّفْسِيرِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ مُتَعَلِّقٌ بِأَعُوذُ، أَيْ: مِنْ شَرِّ كُلِّ مَا خَلَقَهُ سُبْحَانَهُ مِنْ جَمِيعِ مَخْلُوقَاتِهِ فَيَعُمُّ جَمِيعَ الشُّرُورِ، وَقِيلَ: هُوَ إِبْلِيسُ وَذُرِّيَّتُهُ، وَقِيلَ: جَهَنَّمُ، وَلَا وَجْهَ لِهَذَا التَّخْصِيصِ، كَمَا أَنَّهُ لَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِ مَنْ خَصَّصَ هَذَا الْعُمُومَ بِالْمَضَارِّ الْبَدَنِيَّةِ. وَقَدْ حَرَّفَ بَعْضُ الْمُتَعَصِّبِينَ هَذِهِ الْآيَةَ مُدَافَعَةً عَنْ مَذْهَبِهِ وَتَقْوِيمًا لِبَاطِلِهِ، فَقَرَؤُوا بِتَنْوِينِ شَرٍّ عَلَى أَنَّ «مَا» نَافِيَةٌ، وَالْمَعْنَى: مِنْ شَرٍّ لَمْ يَخْلُقْهُ، وَمِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ وَعَمْرُو بْنُ عَائِذٍ وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ الْغَاسِقُ: اللَّيْلُ، وَالْغَسَقُ: الظُّلْمَةُ، يُقَالُ: غَسَقَ اللَّيْلُ يَغْسِقُ إِذَا أَظْلَمَ. قَالَ الْفَرَّاءُ:

يُقَالُ: غَسَقَ اللَّيْلُ وَأَغْسَقَ إِذَا أَظْلَمَ، وَمِنْهُ قَوْلُ قَيْسُ بْنُ الرُّقَيَّاتِ:

إِنَّ هَذَا اللَّيْلَ قَدْ غَسَقَا ... وَاشْتَكَيْتُ الْهَمَّ وَالْأَرَقَا

وَقَالَ الزَّجَّاجُ: قِيلَ لِلَّيْلِ: غَاسِقٌ لِأَنَّهُ أَبْرَدُ مِنَ النَّهَارِ، وَالْغَاسِقُ، الْبَارِدُ، وَالْغَسَقُ: الْبَرْدُ، وَلِأَنَّ فِي اللَّيْلِ تَخْرُجُ السِّبَاعُ مِنْ آجَامِهَا، وَالْهَوَامُّ مِنْ أماكنها، وينبعث أهل الشرّ على العيث وَالْفَسَادِ، كَذَا قَالَ، وَهُوَ قَوْلٌ بَارِدٌ، فَإِنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ عَلَى خِلَافِهِ، وَكَذَا جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ. ووقبه: دُخُولُ ظَلَامِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

وَقَبَ الْعَذَابُ عليهم فكأنّهم ... لحقتهم نار السّموم فأحصدوا

أَيْ: دَخَلَ الْعَذَابُ عَلَيْهِمْ، وَيُقَالُ: وَقَبَتِ الشَّمْسُ إِذَا غَابَتْ، وَقِيلَ: الْغَاسِقُ: الثُّرَيَّا، وَذَلِكَ أَنَّهَا إِذَا سَقَطَتْ كَثُرَتِ الْأَسْقَامُ وَالطَّوَاعِينُ، وَإِذَا طَلَعَتِ ارْتَفَعَ ذَلِكَ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ. وَهَذَا مُحْتَاجٌ إِلَى نَقْلٍ عَنِ الْعَرَبِ أَنَّهُمْ يَصِفُونَ الثُّرَيَّا بِالْغُسُوقِ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: هُوَ الشَّمْسُ إِذَا غَرَبَتْ، وَكَأَنَّهُ لَاحَظَ مَعْنَى الْوُقُوبِ وَلَمْ يُلَاحِظْ مَعْنَى الْغُسُوقِ، وَقِيلَ: هُوَ الْقَمَرُ إِذَا خَسَفَ، وَقِيلَ: إِذَا غَابَ. وَبِهَذَا قَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثٍ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ


(١) . وصدر البيت: وعيد أبي قابوس في غير كنهه.
(٢) . الأنعام: ٩٦.
(٣) . الأنعام: ٩٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>