للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هَذَا شُرُوعٌ فِي بَيَانِ حَالِ الْمُدَايَنَةِ الْوَاقِعَةِ بَيْنَ النَّاسِ بَعْدَ بَيَانِ حَالِ الرِّبَا، أَيْ: إِذَا دَايَنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَعَامَلَهُ بِذَلِكَ، وَذَكَرَ الدَّيْنَ بَعْدَ ذِكْرِ مَا يُغْنِي عَنْهُ مِنَ الْمُدَايَنَةِ لِقَصْدِ التَّأْكِيدِ مِثْلَ قَوْلِهِ: وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ «١» وَقِيلَ: إِنَّهُ ذُكِرَ لِيَرْجِعَ إِلَيْهِ الضَّمِيرُ مِنْ قَوْلِهِ: فَاكْتُبُوهُ وَلَوْ قَالَ: فَاكْتُبُوا الدَّيْنَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مِنَ الْحُسْنِ مَا فِي قَوْلِهِ: إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ وَالدَّيْنُ: عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ مُعَامَلَةٍ كَانَ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ فِيهَا نَقْدًا، وَالْآخَرُ فِي الذِّمَّةِ نَسِيئَةً، فَإِنَّ الْعَيْنَ عِنْدَ الْعَرَبِ مَا كَانَ حَاضِرًا، وَالدَّيْنَ مَا كَانَ غَائِبًا، قَالَ الشَّاعِرُ:

وَعَدَتْنَا بِدِرْهَمَيْنَا طِلَاءً ... وَشِوَاءً مُعَجَّلًا غَيْرَ دَيْنِ

وَقَالَ الْآخَرُ:

إِذَا مَا أَوْقَدُوا حطبا ونارا ... فَذَاكَ الْمَوْتُ نَقْدًا غَيْرَ دَيْنِ

وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ هَذَا الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْأَجَلَ الْمَجْهُولَ لَا يَجُوزُ وَخُصُوصًا أَجْلُ السَّلَمِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَسْلَفَ فِي تَمْرٍ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ» وَقَدْ قَالَ بِذَلِكَ الْجُمْهُورُ، وَاشْتَرَطُوا تَوْقِيتَهُ بِالْأَيَّامِ أَوِ الْأَشْهُرِ أَوِ السِّنِينَ، قَالُوا: وَلَا يَجُوزُ إِلَى الْحَصَادِ، أَوِ الدِّيَاسِ، أَوْ رُجُوعِ الْقَافِلَةِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ وَجَوَّزَهُ مَالِكٌ. قَوْلُهُ: فَاكْتُبُوهُ أَيِ:

الدَّيْنَ بِأَجَلِهِ، لِأَنَّهُ أَدْفَعُ لِلنِّزَاعِ، وَأَقْطَعُ لِلْخِلَافِ. قَوْلُهُ: وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ هُوَ بَيَانٌ لِكَيْفِيَّةِ الْكِتَابَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا، وَظَاهِرُ الْأَمْرِ الْوُجُوبُ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَالشَّعْبِيُّ وَغَيْرُهُمَا، فَأَوْجَبُوا عَلَى الْكَاتِبِ أَنْ يَكْتُبَ إِذَا طُلِبَ مِنْهُ ذَلِكَ، وَلَمْ يُوجَدْ كَاتِبٌ سِوَاهُ وَقِيلَ الْأَمْرُ لِلنَّدْبِ. وَقَوْلُهُ: بِالْعَدْلِ متعلق بمحذوف صفة لكاتب، أَيْ: كَاتِبٌ كَائِنٌ بِالْعَدْلِ، أَيْ: يَكْتُبُ بِالسَّوِيَّةِ، لَا يَزِيدُ وَلَا يُنْقِصُ، وَلَا يَمِيلُ إِلَى أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ، وَهُوَ أَمْرٌ لِلْمُتَدَايِنَيْنِ بِاخْتِيَارِ كَاتِبٍ مُتَّصِفٍ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، لَا يَكُونُ فِي قَلْبِهِ وَلَا قَلَمِهِ هَوَادَةٌ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، بَلْ يَتَحَرَّى الْحَقَّ بَيْنَهُمْ وَالْمَعْدَلَةَ فِيهِمْ. قَوْلُهُ: وَلا يَأْبَ كاتِبٌ النَّكِرَةُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ مُشْعِرَةٌ بِالْعُمُومِ، أَيْ: لَا يَمْتَنِعُ أَحَدٌ مِنَ الْكُتَّابِ أَنْ يَكْتُبَ كِتَابَ التَّدَايُنِ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ، أَيْ: عَلَى الطَّرِيقَةِ الَّتِي عَلَّمَهُ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابَةِ، أَوْ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: بِالْعَدْلِ. قَوْلُهُ: وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ الْإِمْلَالُ وَالْإِمْلَاءُ لُغَتَانِ: الْأُولَى: لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَبَنِي أَسَدٍ. وَالثَّانِيَةُ: لُغَةُ بَنِي تَمِيمٍ. فَهَذِهِ الْآيَةُ جَاءَتْ عَلَى اللُّغَةِ الْأُولَى، وَجَاءَ عَلَى اللُّغَةِ الثَّانِيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا «٢» والَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ هُوَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ، أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْإِمْلَاءِ، لِأَنَّ الشَّهَادَةَ إِنَّمَا تَكُونُ عَلَى إِقْرَارِهِ بِثُبُوتِ الدَّيْنِ فِي ذِمَّتِهِ، وَأَمَرَهُ اللَّهُ بِالتَّقْوَى فِيمَا يُمْلِيهِ عَلَى الْكَاتِبِ، بَالَغَ فِي ذَلِكَ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الِاسْمِ وَالْوَصْفِ فِي قَوْلِهِ: وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَنَهَاهُ عَنِ الْبَخْسِ وَهُوَ: النَّقْصُ وَقِيلَ: إِنَّهُ نَهْيٌ لِلْكَاتِبِ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ هُوَ الَّذِي يُتَوَقَّعُ مِنْهُ النَّقْصُ، وَلَوْ كَانَ نَهْيًا لِلْكَاتِبِ لم يقتصره فِي نَهْيِهِ عَلَى النَّقْصِ، لِأَنَّهُ يُتَوَقَّعُ مِنْهُ الزِّيَادَةُ كَمَا يُتَوَقَّعُ مِنْهُ النَّقْصُ. وَالسَّفِيهُ:

هُوَ الَّذِي لَا رَأْيَ لَهُ فِي حُسْنِ التَّصَرُّفِ فَلَا يُحْسِنُ الْأَخْذَ وَلَا الْإِعْطَاءَ، شُبِّهَ بِالثَّوْبِ السَّفِيهِ، وَهُوَ: الْخَفِيفُ النَّسْجِ، وَالْعَرَبُ تُطْلِقُ السَّفَهَ عَلَى ضَعْفِ الْعَقْلِ تَارَةً، وَعَلَى ضَعْفِ الْبَدَنِ أخرى، فمن الأوّل قول الشاعر:


(١) . الأنعام: ٣٨.
(٢) . الفرقان: ٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>