للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَقَوْلُهُ: بَيْنَ أَحَدٍ وَلَمْ يَقُلْ بَيْنَ آحَادٍ، لِأَنَّ الْأَحَدَ يَتَنَاوَلُ الْوَاحِدَ، وَالْجَمْعَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ «١» فَوَصَفَهُ بِقَوْلِهِ: حاجِزِينَ لِكَوْنِهِ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَأَنْ تَكُونَ خَبَرًا آخَرَ لِقَوْلِهِ: كُلٌّ. وَقَوْلُهُ: مِنْ رُسُلِهِ أَظْهَرَ فِي مَحَلِّ الْإِضْمَارِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ تَوَهُّمِ انْدِرَاجِ الْمَلَائِكَةِ فِي الْحُكْمِ، أَوِ الْإِشْعَارِ بِعِلَّةِ عَدَمِ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمْ. وَقَوْلُهُ:

وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: آمَنَ وَهُوَ وَإِنْ كَانَ لِلْمُفْرَدِ وَهَذَا لِلْجَمَاعَةِ فَهُوَ جَائِزٌ نَظَرًا إِلَى جَانِبِ الْمَعْنَى، أَيْ: أَدْرَكْنَاهُ بِأَسْمَاعِنَا، وَفَهْمِنَاهُ، وَأَطَعْنَا مَا فِيهِ وَقِيلَ: مَعْنَى سَمِعْنَا: أَجَبْنَا دَعْوَتَكَ.

قَوْلُهُ: غُفْرانَكَ مَصْدَرٌ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ، أَيِ: اغْفِرْ غُفْرَانَكَ. قَالَهُ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ، وَقَدَّمَ السَّمْعَ وَالطَّاعَةَ عَلَى طَلَبِ الْمَغْفِرَةِ لِكَوْنِ الْوَسِيلَةِ تَتَقَدَّمُ عَلَى الْمُتَوَسِّلِ إِلَيْهِ. قَوْلُهُ: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها التَّكْلِيفُ: هُوَ الْأَمْرُ بِمَا فِيهِ مَشَقَّةٌ وَكُلْفَةٌ، وَالْوُسْعُ: الطَّاقَةُ، وَالْوُسْعُ: مَا يَسَعُ الْإِنْسَانَ وَلَا يُضَيِّقُ عَلَيْهِ، وَهَذِهِ جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ جَاءَتْ عَقِبَ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ الْآيَةَ، لِكَشْفِ كُرْبَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَدَفْعِ الْمَشَقَّةِ عَلَيْهِمْ فِي التَّكْلِيفِ بِمَا فِي الْأَنْفُسِ، وَهِيَ كَقَوْلِهِ: سُبْحَانَهُ: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ «٢» . قوله: لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ فِيهِ تَرْغِيبٌ وَتَرْهِيبٌ، أَيْ: لَهَا ثَوَابُ مَا كَسَبَتْ مِنَ الْخَيْرِ، وَعَلَيْهَا وِزْرُ مَا اكْتَسَبَتْ من الشرّ، وتقدّم «لها وعليها» عَلَى الْفِعْلَيْنِ لِيُفِيدَ أَنَّ ذَلِكَ لَهَا لَا لِغَيْرِهَا، وَعَلَيْهَا لَا عَلَى غَيْرِهَا، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ: كَسَبَ، لِلْخَيْرِ فَقَطْ، وَاكْتَسَبَ: لِلشَّرِّ فَقَطْ، كَمَا قَالَهُ صَاحِبُ الْكَشَّافِ وَغَيْرُهُ وَقِيلَ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْفِعْلَيْنِ يَصْدُقُ عَلَى الْأَمْرَيْنِ، وَإِنَّمَا كَرَّرَ الْفِعْلَ وَخَالَفَ بَيْنَ التَّصْرِيفَيْنِ تَحْسِينًا لِلنَّظْمِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً «٣» . قَوْلُهُ: رَبَّنا لَا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا أَيْ: لَا تُؤَاخِذْنَا بِإِثْمِ مَا يَصْدُرُ مِنَّا مِنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ. وَقَدِ اسْتَشْكَلَ هَذَا الدُّعَاءُ جَمَاعَةً مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَغَيْرِهِمْ قَائِلِينَ: إِنَّ الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ مَغْفُورَانِ غَيْرُ مُؤَاخَذٍ بِهِمَا، فَمَا مَعْنَى الدُّعَاءِ بِذَلِكَ، فَإِنَّهُ مِنْ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ. وأجيب عن ذلك: بأن المراد: طلب عدم الْمُؤَاخَذَةِ بِمَا صَدَرَ عَنْهُمْ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى النِّسْيَانِ وَالْخَطَأِ مِنَ التَّفْرِيطِ وَعَدَمِ الْمُبَالَاةِ، لَا مِنْ نَفْسِ النِّسْيَانِ وَالْخَطَأِ، فَإِنَّهُ لَا مُؤَاخَذَةَ بِهِمَا كَمَا يُفِيدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ» وَسَيَأْتِي مَخْرَجُهُ وَقِيلَ: إِنَّهُ يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَدْعُوَ بِحُصُولِ مَا هُوَ حَاصِلٌ لَهُ قَبْلَ الدُّعَاءِ لِقَصْدِ اسْتَدَامَتِهِ وَقِيلَ: إِنَّهُ وَإِنْ ثَبَتَ شَرْعًا أَنَّهُ لَا مُؤَاخَذَةَ بِهِمَا، فَلَا امْتِنَاعَ فِي الْمُؤَاخَذَةِ بِهِمَا عَقْلًا وَقِيلَ: لِأَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى جَانِبٍ عَظِيمٍ مِنَ التَّقْوَى بِحَيْثُ لَا يَصْدُرُ عَنْهُمُ الذَّنْبُ تَعَمُّدًا، وَإِنَّمَا يَصْدُرُ عَنْهُمْ خَطَأً أَوْ نِسْيَانًا، فَكَأَنَّهُ وَصَفَهُمْ بِالدُّعَاءِ بِذَلِكَ إِيذَانًا بِنَزَاهَةِ سَاحَتِهِمْ عَمَّا يُؤَاخَذُونَ بِهِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنْ كَانَ النِّسْيَانُ وَالْخَطَأُ مِمَّا يُؤَاخَذُ بِهِ، فَمَا مِنْهُمْ سَبَبُ مُؤَاخَذَةٍ إِلَّا الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهَذَا لَمْ يُخْتَلَفْ فِيهِ أَنَّ الْإِثْمَ مَرْفُوعٌ، وَإِنَّمَا اخْتُلِفَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ هَلْ ذَلِكَ مَرْفُوعٌ وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ شَيْءٌ، أَوْ يَلْزَمُ أَحْكَامُ ذَلِكَ كُلِّهِ؟ اخْتُلِفَ فِيهِ، وَالصَّحِيحُ: أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِحَسْبِ الْوَقَائِعِ، فَقِسْمٌ لَا يَسْقُطُ بِاتِّفَاقٍ كَالْغَرَامَاتِ والدّيات وَالصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ، وَقِسْمٌ يَسْقُطُ بِاتِّفَاقٍ كَالْقِصَاصِ وَالنُّطْقِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ، وَقِسْمٌ ثَالِثٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ: كَمَنْ أَكَلَ نَاسِيًا فِي رَمَضَانَ أَوْ حَنَثَ سَاهِيًا، وما كان مثله مما يقع


(١) . الحاقة: ٤٧.
(٢) . البقرة: ١٨٥.
(٣) . الطارق: ١٧. [.....]

<<  <  ج: ص:  >  >>