للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالْمُرَادُ: لَا يُقَصِّرُونَ فِيمَا فِيهِ الْفَسَادُ عَلَيْكُمْ، وَإِنَّمَا عُدِّيَ إِلَى مَفْعُولَيْنِ: لِكَوْنِهِ مُضَمِّنًا مَعْنَى المنع، أي:

لا يمنعونكم خَبَالًا، وَالْخَبَالُ وَالْخَبَلُ: الْفَسَادُ فِي الْأَفْعَالِ وَالْأَبْدَانِ وَالْعُقُولِ. قَالَ أَوْسُ:

أَبَنِي لُبَيْنَى لَسْتُمْ بِيَدٍ ... إِلَّا يَدًا مَخْبُولَةَ الْعَضُدِ

أَيْ: فَاسِدَةَ الْعَضُدِ. قَوْلُهُ: وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ مَا: مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ: وَدُّوا عَنَتَكُمْ، وَالْعَنَتُ: الْمَشَقَّةُ وَشِدَّةُ الضَّرَرِ، وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ، مُؤَكِّدَةٌ لِلنَّهْيِ. قَوْلُهُ: قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ هِيَ شِدَّةُ الْبُغْضِ، كَالضَّرَّاءِ: لِشِدَّةِ الضُّرِّ. وَالْأَفْوَاهُ: جَمْعُ فَمٍ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا قَدْ ظَهَرَتِ الْبَغْضَاءُ فِي كَلَامِهِمْ، لِأَنَّهُمْ لَمَّا خَامَرَهُمْ مِنْ شِدَّةِ الْبُغْضِ وَالْحَسَدِ أَظْهَرَتْ أَلْسِنَتُهُمْ مَا فِي صُدُورِهِمْ، فَتَرَكُوا التَّقِيَّةَ، وَصَرَّحُوا بِالتَّكْذِيبِ. أَمَّا الْيَهُودُ:

فَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ وَاضِحٌ. وَأَمَّا الْمُنَافِقُونَ: فَكَانَ يَظْهَرُ مِنْ فَلَتَاتِ أَلْسِنَتِهِمْ مَا يَكْشِفُ عَنْ خُبْثِ طويتهم. وهذه الجملة لِبَيَانِ حَالِهِمْ: وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ لِأَنَّ فلتات اللسان أقل مما تكنه الصُّدُورُ، بَلْ تِلْكَ الْفَلَتَاتُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا فِي الصُّدُورِ قَلِيلَةٌ جِدًّا. ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ امْتَنَّ عَلَيْهِمْ بِبَيَانِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِ الْإِخْلَاصِ، إِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْعُقُولِ الْمُدْرِكَةِ لِذَلِكَ الْبَيَانِ. قَوْلُهُ: هَا أَنْتُمْ أُولاءِ جُمْلَةٌ مُصَدَّرَةٌ بِحَرْفِ التَّنْبِيهِ، أَيْ:

أَنْتُمْ أُولَاءِ الْخَاطِئُونَ فِي مُوَالَاتِهِمْ، ثُمَّ بَيَّنَ خَطَأَهُمْ بِتِلْكَ الْمُوَالَاةِ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ التَّذْيِيلِيَّةِ. فَقَالَ: تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ، وَقِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ: تُحِبُّونَهُمْ خَبَرٌ ثَانٍ لِقَوْلِهِ: أَنْتُمْ وَقِيلَ: إِنَّ أُولَاءِ: مَوْصُولٌ، وَتُحِبُّونَهُمْ: صِلَتُهُ، أَيْ: تُحِبُّونَهُمْ لِمَا أَظْهَرُوا لَكُمُ الْإِيمَانَ، أَوْ لِمَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِنَ الْقَرَابَةِ وَلا يُحِبُّونَكُمْ لِمَا قَدِ اسْتَحْكَمَ فِي صُدُورِهِمْ مِنَ الْغَيْظِ وَالْحَسَدِ. قَوْلُهُ: وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ أَيْ: بِجِنْسِ الْكِتَابِ جَمِيعًا، وَمَحَلُّ الْجُمْلَةِ: النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ، أَيْ: لَا يُحِبُّونَكُمْ، وَالْحَالُ أَنَّكُمْ مُؤْمِنُونَ بِكُتُبِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا كِتَابُهُمْ، فَمَا بَالُكُمْ تُحِبُّونَهُمْ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِكِتَابِكُمْ. وَفِيهِ تَوْبِيخٌ لَهُمْ شَدِيدٌ، لِأَنَّ مَنْ بِيَدِهِ الْحَقُّ أَحَقُّ بِالصَّلَابَةِ وَالشِّدَّةِ مِمَّنْ هُوَ عَلَى الْبَاطِلِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا نِفَاقًا وَتَقِيَّةً. وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ

تَأَسُّفًا وَتَحَسُّرًا، حَيْثُ عَجَزُوا عَنِ الِانْتِقَامِ مِنْكُمْ، وَالْعَرَبُ تَصِفُ الْمُغْتَاظَ وَالنَّادِمَ بِعَضِّ الْأَنَامِلِ وَالْبَنَانِ، ثُمَّ أَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِأَنْ يَدْعُوَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ وَهُوَ يَتَضَمَّنُ اسْتِمْرَارَ غَيْظِهِمْ ماداموا فِي الْحَيَاةِ حَتَّى يَأْتِيَهُمُ الْمَوْتُ وَهُمْ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ فَهُوَ يَعْلَمُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَصُدُورِهِمْ، وَالْمُرَادُ بِذَاتِ الصُّدُورِ: الْخَوَاطِرُ الْقَائِمَةُ بِهَا، وَهُوَ كَلَامٌ دَاخِلٌ تَحْتَ قَوْلِهِ:

قُلْ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَقُولِ. قَوْلُهُ: إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيَانِ تَنَاهِي عَدَاوَتِهِمْ، وَحَسَنَةٌ وَسَيِّئَةٌ: يَعُمَّانِ كُلَّ مَا يُحْسِنُ وَمَا يَسُوءُ. وَعَبَّرَ بِالْمَسِّ فِي الْحَسَنَةِ، وَبِالْإِصَابَةِ فِي السَّيِّئَةِ، لِلدَّلَالَةِ: عَلَى أَنَّ مُجَرَّدِ مَسِّ الْحَسَنَةِ يَحْصُلُ بِهِ الْمَسَاءَةُ، وَلَا يَفْرَحُونَ إِلَّا بِإِصَابَةِ السَّيِّئَةِ وَقِيلَ: إِنَّ الْمَسَّ مُسْتَعَارٌ لِمَعْنَى الْإِصَابَةِ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ مَنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالَتُهُ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِأَنْ يُتَّخَذَ بِطَانَةً وَإِنْ تَصْبِرُوا عَلَى عَدَاوَتِهِمْ أَوْ عَلَى التَّكَالِيفِ الشَّاقَّةِ وَتَتَّقُوا مُوَالَاتِهِمْ، أو ما حرّمه الله عليكم ولا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً، يُقَالُ: ضَارَّهُ يَضُورُهُ وَيَضِيرُهُ ضَيْرًا وَضُيُورًا، بِمَعْنَى: ضَرَّهُ يَضُرُّهُ، وَبِهِ قَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ، وَابْنُ عَامِرٍ: لَا يَضُرُّكُمْ بِضَمِّ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِهَا مِنْ ضَرَّ يَضُرُّ، فَهُوَ عَلَى الْقِرَاءَةِ

<<  <  ج: ص:  >  >>