للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لِمَعْنَى الْآيَةِ، وَلَا يَخْلُو مَا عَدَاهُ عَنْ تَكَلُّفٍ، فَلَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِالْأَمَةِ إِلَّا إِذَا كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَتَزَوَّجَ بِالْحُرَّةِ، لِعَدَمِ وُجُودِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي نِكَاحِهَا مِنْ مَهْرٍ وَغَيْرِهِ. وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ: مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ:

عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ، وَبِهِ قَالَ أَهْلُ الْحِجَازِ وَجَوَّزَهُ أَهْلُ الْعِرَاقِ، وَدَخَلَتِ الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ لِتُضَمِّنِ الْمُبْتَدَأَ مَعْنَى الشَّرْطِ. وَقَوْلُهُ: مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، فَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ الْحُرِّ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِالْمَمْلُوكَةِ إِلَّا بِشَرْطِ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْحُرَّةِ. وَالشَّرْطُ الثَّانِي:

مَا سَيَذْكُرُهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ آخِرَ الْآيَةِ مِنْ قَوْلِهِ: ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ فَلَا يَحِلُّ لِلْفَقِيرِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِالْمَمْلُوكَةِ إِلَّا إِذَا كَانَ يَخْشَى عَلَى نَفْسِهِ الْعَنَتَ. وَالْمُرَادُ هُنَا: الْأَمَةُ الْمَمْلُوكَةُ لِلْغَيْرِ، وَأَمَّا أَمَةُ الْإِنْسَانِ نَفْسِهِ فَقَدْ وَقَعَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ لَا يجوز أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، وَهِيَ تَحْتَ مِلْكِهِ لِتَعَارُضِ الْحُقُوقِ وَاخْتِلَافِهَا. وَالْفَتَيَاتُ: جَمْعُ فَتَاةٍ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِلْمَمْلُوكِ: فَتًى، وَلِلْمَمْلُوكَةِ: فَتَاةً. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ عَبْدِي وَأَمَتِي، وَلَكِنْ لِيَقُلْ فَتَايَ وَفَتَاتِي» قَوْلُهُ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ فِيهِ تَسْلِيَةٌ لِمَنْ يَنْكِحُ الْأَمَةَ إِذَا اجْتَمَعَ فِيهِ الشَّرْطَانِ الْمَذْكُورَانِ، أَيْ: كُلُّكُمْ بَنُو آدَمَ، وَأَكْرَمُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ، فَلَا تَسْتَنْكِفُوا مِنَ الزَّوَاجِ بِالْإِمَاءِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، فَرُبَّمَا كَانَ إِيمَانُ بَعْضِ الْإِمَاءِ أَفْضَلَ مِنْ إِيمَانِ بَعْضِ الْحَرَائِرِ. وَالْجُمْلَةُ اعْتِرَاضِيَّةٌ. وَقَوْلُهُ:

بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ مُتَّصِلُونَ فِي الْأَنْسَابِ لِأَنَّهُمْ جَمِيعًا بَنُو آدَمَ، أَوْ مُتَّصِلُونَ فِي الدِّينِ لِأَنَّهُمْ جَمِيعًا أَهْلُ مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَكِتَابُهُمْ وَاحِدٌ، وَنَبِيُّهُمْ وَاحِدٌ. وَالْمُرَادُ بِهَذَا: تَوْطِئَةُ نُفُوسِ الْعَرَبِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَهْجِنُونَ أَوْلَادَ الْإِمَاءِ، وَيَسْتَصْغِرُونَهُمْ، وَيَغُضُّونَ مِنْهُمْ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ أي:

بإذن المالكين لهنّ، ولأن مَنَافِعَهُنَّ لَهُمْ لَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِمْ أَنْ يَنْتَفِعَ بِشَيْءٍ مِنْهَا إِلَّا بِإِذْنِ مَنْ هِيَ لَهُ. قوله: وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ أي: أدّوا مُهُورَهُنَّ بِمَا هُوَ بِالْمَعْرُوفِ فِي الشَّرْعِ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذَا مَنْ قَالَ: إِنَّ الْأَمَةَ أَحَقُّ بِمَهْرِهَا مِنْ سَيِّدِهَا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِكٌ، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ: إِلَى أَنَّ الْمَهْرَ لِلسَّيِّدِ، وَإِنَّمَا أَضَافَهَا إِلَيْهِنَّ: لِأَنَّ التَّأْدِيَةَ إِلَيْهِنَّ تَأْدِيَةٌ إِلَى سَيِّدِهِنَّ لِكَوْنِهِنَّ مَالَهُ. قَوْلُهُ: مُحْصَناتٍ أَيْ: عَفَائِفَ. وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ: مُحْصِنَاتٍ بِكَسْرِ الصَّادِ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ إِلَّا فِي قَوْلِهِ: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِالْفَتْحِ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ.

قَوْلُهُ: غَيْرَ مُسافِحاتٍ أَيْ: غَيْرَ مُعْلِنَاتٍ بِالزِّنَا. وَالْأَخْدَانُ: الْأَخِلَّاءُ، وَالْخِدْنُ، وَالْخَدِينُ: الْمُخَادِنُ، أَيِ: الْمُصَاحِبُ- وَقِيلَ: ذَاتُ الْخِدْنِ: هِيَ الَّتِي تَزْنِي سِرًّا، فَهُوَ مُقَابِلٌ لِلْمُسَافِحَةِ، وَهِيَ الَّتِي تُجَاهِرُ بِالزِّنَا، وَقِيلَ: الْمُسَافِحَةُ: الْمَبْذُولَةُ، وَذَاتُ الْخِدْنِ: الَّتِي تَزْنِي بِوَاحِدٍ. وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَعِيبُ الْإِعْلَانَ بِالزِّنَا، وَلَا تَعِيبُ اتِّخَاذَ الْأَخْدَانِ، ثُمَّ رَفَعَ الْإِسْلَامُ جَمِيعَ ذَلِكَ، قَالَ اللَّهُ: وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ «١» قَوْلُهُ: فَإِذا أُحْصِنَّ قَرَأَ عَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِضَمِّهَا، وَالْمُرَادُ بِالْإِحْصَانِ هُنَا: الْإِسْلَامُ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وابن عمرو، وَأَنَسٍ، وَالْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ، وَزِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَعَطَاءٍ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالسُّدِّيِّ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِإِسْنَادٍ مُنْقَطِعٍ، وَهُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، وَبِهِ قال الجمهور. وقال ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَطَاوُسٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَغَيْرُهُمْ: إِنَّهُ التزويج. وروي عن


(١) . الأنعام: ١٥١.

<<  <  ج: ص:  >  >>