للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

رُؤْيَةُ الْعَيْنِ، لِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يُرَى، بَلِ الْمُرَادُ: بِمَا عَرَّفَهُ اللَّهُ بِهِ وَأَرْشَدَهُ إِلَيْهِ. قَوْلُهُ: وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ أَيْ: لِأَجْلِ الْخَائِنِينَ، خَصِيمًا: أَيْ: مُخَاصِمًا عَنْهُمْ، مُجَادِلًا لِلْمُحِقِّينَ بِسَبَبِهِمْ. وَفِيهِ دَلِيلٌ، عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُخَاصِمَ عَنْ أَحَدٍ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ مُحِقٌّ. قَوْلُهُ: وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ أَمْرٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالِاسْتِغْفَارِ.

قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: إِنَّ الْمَعْنَى: اسْتَغْفِرِ اللَّهَ مِنْ ذَنْبِكَ فِي خِصَامِكَ لِلْخَائِنِينَ. وَسَيَأْتِي بَيَانُ السَّبَبِ الَّذِي نَزَلَتْ لِأَجْلِهِ الْآيَةُ، وَبِهِ يَتَّضِحُ الْمُرَادُ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ لِلْمُذْنِبِينَ مِنْ أُمَّتِكَ، وَالْمُخَاصِمِينَ بِالْبَاطِلِ. قَوْلُهُ: وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ

أَيْ: لَا تُحَاجِجْ عَنِ الَّذِينَ يَخُونُونَ أَنْفُسَهُمْ، وَالْمُجَادَلَةُ: مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْجَدَلِ، وَهُوَ الْفَتْلُ وَقِيلَ: مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْجَدَالَةِ، وَهِيَ وَجْهُ الْأَرْضِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْخَصْمَيْنِ يُرِيدُ أَنْ يُلْقِيَ صَاحِبَهُ عَلَيْهَا، وَسُمِّيَ ذَلِكَ: خِيَانَةً لِأَنْفُسِهِمْ، لِأَنَّ ضَرَرَ مَعْصِيَتِهِمْ رَاجِعٌ إِلَيْهِمْ. وَالْخَوَّانُ: كَثِيرُ الْخِيَانَةِ، وَالْأَثِيمُ: كَثِيرُ الْإِثْمِ، وَعَدَمُ الْمَحَبَّةِ: كِنَايَةٌ عَنِ الْبُغْضِ. قَوْلُهُ: يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ

أَيْ:

يَسْتَتِرُونَ مِنْهُمْ، كَقَوْلِهِ: وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ أي: مستتر وقيل: يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ: أَيْ لَا يَسْتَتِرُونَ مِنْهُ، أَوْ لَا يَسْتَحْيُونَ مِنْهُ وَالْحَالُ أَنَّهُ مَعَهُمْ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ، عَالِمٌ بِمَا هُمْ فِيهِ، فَكَيْفَ يَسْتَخْفُونَ مِنْهُ؟ إِذْ يُبَيِّتُونَ

أَيْ: يُدِيرُونَ الرَّأْيَ بَيْنَهُمْ، وَسَمَّاهُ: تَبْيِيتًا لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنْ تَكُونَ إِدَارَةُ الرَّأْيِ بِاللَّيْلِ مَا لَا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ

أَيْ: مِنَ الرَّأْيِ الَّذِي أَدَارُوهُ بَيْنَهُمْ، وَسَمَّاهُ: قَوْلًا، لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بَعْدَ الْمُقَاوَلَةِ بَيْنَهُمْ. قَوْلُهُ: هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ

يَعْنِي: الْقَوْمَ الَّذِينَ جَادَلُوا عَنْ صَاحِبِهِمُ السَّارِقِ كَمَا سَيَأْتِي، وَالْجُمْلَةُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أُولَاءِ بِمَعْنَى الَّذِينَ وجادَلْتُمْ

بِمَعْنَى حَاجَجْتُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ

الِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ، أَيْ: فَمَنْ يُخَاصِمُ وَيُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ تَعْذِيبِهِمْ بِذُنُوبِهِمْ؟ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا

أَيْ: مُجَادِلًا وَمُخَاصِمًا، وَالْوَكِيلُ فِي الْأَصْلِ: الْقَائِمُ بِتَدْبِيرِ الْأُمُورِ. وَالْمَعْنَى: مَنْ ذَاكَ يَقُومُ بِأَمْرِهِمْ إِذَا أَخَذَهُمُ اللَّهُ بِعَذَابِهِ.

وَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ عَنْ قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ قَالَ: كَانَ أَهْلُ بَيْتٍ مِنَّا يُقَالُ لَهُمْ: بَنُو أُبَيْرِقٍ بِشْرٌ وَبُشَيْرٌ وَمُبَشِّرٌ، وَكَانَ بِشْرٌ رَجُلًا مُنَافِقًا يَقُولُ الشِّعْرَ، يَهْجُو بِهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ يَنْحَلُهُ بَعْضُ الْعَرَبِ، ثُمَّ يَقُولُ: قَالَ فُلَانٌ: كَذَا وَكَذَا، قَالَ فُلَانٌ: كَذَا وَكَذَا فَإِذَا سَمِعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ الشِّعْرَ قَالُوا: وَاللَّهِ مَا يَقُولُ هذا الشعر إلا هذا الخبيث، فقال:

أو كلّما قَالَ الرِّجَالُ قَصِيدَةً ... أَصْمُوا فَقَالُوا «١» ابْنُ الْأُبَيْرِقِ قَالَهَا

قَالَ: وَكَانُوا أَهْلَ بَيْتِ حَاجَةٍ وَفَاقَةٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ، وَكَانَ النَّاسُ إِنَّمَا طَعَامُهُمْ بِالْمَدِينَةِ التَّمْرُ وَالشَّعِيرُ، وَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا كَانَ لَهُ يَسَارٌ فَقَدِمَتْ ضَافِطَةٌ «٢» ، أَيْ: حَمُولَةٌ مِنَ الشام من الدرمك «٣» ابتاع الرجل منها


(١) . في القرطبي (٥/ ٣٧٦) : نحلت وقالوا ...
(٢) . الضافط: الذي يجلب الميرة والمتاع إلى المدن.
(٣) . الدرمك: الدقيق الحوّارى. [.....]

<<  <  ج: ص:  >  >>