للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَصْلُ يَسْتَنْكِفُ: نَكَفَ، وَبَاقِي الْحُرُوفِ زَائِدَةٌ، يُقَالُ: نَكَفْتُ مِنَ الشَّيْءِ، وَاسْتَنْكَفْتُ مِنْهُ، وَأَنْكَفْتُهُ، أَيْ: نَزَّهْتُهُ عَمَّا يُسْتَنْكَفُ مِنْهُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: اسْتَنْكَفَ، أَيْ: أَنِفَ، مَأْخُوذٌ مَنْ نَكَفْتُ الدَّمْعَ: إِذَا نَحَّيْتُهُ بِأُصْبُعِكَ عَنْ خَدَّيْكَ وَقِيلَ: هُوَ مِنَ النَّكَفِ، وَهُوَ الْعَيْبُ، يُقَالُ: مَا عَلَيْهِ فِي هَذَا الْأَمْرِ نَكَفٌ وَلَا وَكَفٌ.

أَيْ: عَيْبٌ. ومعنى الأوّل: لم يَأْنَفَ عَنِ الْعُبُودِيَّةِ وَلَنْ يَتَنَزَّهَ عَنْهَا. وَمَعْنَى الثَّانِي: لَنْ يَعِيبَ الْعُبُودِيَّةَ وَلَنْ يَنْقَطِعَ عَنْهَا. لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ

: عَطْفٌ عَلَى الْمَسِيحِ، أَيْ: وَلَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ عَنْ أَنْ يَكُونُوا عِبَادًا الله.

وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذَا: الْقَائِلُونَ بِتَفْضِيلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَقَرَّرَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ وَجْهَ الدَّلَالَةِ بِمَا لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ، وَادَّعَى أَنَّ الذَّوْقَ قَاضٍ بِذَلِكَ، وَنِعْمَ، الذَّوْقُ الْعَرَبِيُّ إِذَا خَالَطَهُ مَحَبَّةُ الْمَذْهَبِ، وَشَابَهَ شَوَائِبُ الْجُمُودِ، كان هذا، وَكُلُّ مَنْ يَفْهَمُ لُغَةَ الْعَرَبِ يَعْلَمُ أَنَّ مَنْ قَالَ: لَا يَأْنَفُ مِنْ هَذِهِ الْمَقَالَةِ إِمَامٌ وَلَا مَأْمُومٌ، أَوْ لَا كَبِيرٌ وَلَا صَغِيرٌ، أَوْ لَا جَلِيلٌ وَلَا حَقِيرٌ، ثُمَّ يَدُلُّ هَذَا: عَلَى أَنَّ الْمَعْطُوفَ أَعْظَمُ شَأْنًا مِنَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَمَا أَرْدَأَ الِاشْتِغَالَ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَمَا أَقَلَّ فَائِدَتَهَا، وَمَا أَبْعَدَهَا عَنْ أَنْ تَكُونَ مَرْكَزًا مِنَ المراكز الشرعية الدينية وجسرا من الجسور مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ

أَيْ: يَأْنَفُ تَكَبُّرًا ويعد نفسه كبيرا عن العبادةسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً

الْمُسْتَنْكِفُ وَغَيْرُهُ، فَيُجَازِي كُلًّا بِعَمَلِهِ. وَتَرَكَ ذِكْرَ غَيْرِ الْمُسْتَنْكِفِ هُنَا لِدَلَالَةِ أَوَّلِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، وَلِكَوْنِ الْحَشْرِ لِكِلَا الطَّائِفَتَيْنِ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَفُوتَهُمْ مِنْهَا شَيْءٌ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً بِسَبَبِ اسْتِنْكَافِهِمْ وَاسْتِكْبَارِهِمْ وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا يواليهم وَلا نَصِيراً ينصرهم. قوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ بِمَا أَنْزَلَهُ عَلَيْكُمْ مِنْ كُتُبِهِ، وَبِمَنْ أَرْسَلَهُ إِلَيْكُمْ مِنْ رُسُلِهِ، وَمَا نَصُبُّهُ لَهُمْ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ. وَالْبُرْهَانُ: مَا يُبَرْهَنُ بِهِ عَلَى الْمَطْلُوبِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً وَهُوَ الْقُرْآنُ، وَسَمَّاهُ نُورًا: لِأَنَّهُ يُهْتَدَى بِهِ مِنْ ظُلْمَةِ الضَّلَالِ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ أَيْ:

بِاللَّهِ، وَقِيلَ: بِالنُّورِ الْمَذْكُورِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ يَرْحَمُهُمْ بِهَا وَفَضْلٍ يَتَفَضَّلُ بِهِ عَلَيْهِمْ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ أَيْ: إِلَى امْتِثَالِ مَا أَمَرَ بِهِ، وَاجْتِنَابِ مَا نَهَى عَنْهُ، أَوْ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِاعْتِبَارِ مَصِيرِهِمْ إِلَى جَزَائِهِ وَتَفَضُّلِهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً أَيْ: طَرِيقًا يَسْلُكُونَهُ إِلَيْهِ مُسْتَقِيمًا لَا عِوَجَ فِيهِ، وَهُوَ التَّمَسُّكُ بِدِينِ الْإِسْلَامِ وَتَرْكِ غَيْرِهِ مِنَ الْأَدْيَانِ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: الْهَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَيْهِ رَاجِعَةٌ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنِ اسْمِ اللَّهِ، وَقِيلَ: رَاجِعَةٌ إِلَى الْقُرْآنِ وَقِيلَ: إِلَى الْفَضْلِ وَقِيلَ: إِلَى الرَّحْمَةِ وَالْفَضْلِ، لِأَنَّهُمَا بِمَعْنَى الثَّوَابِ، وَانْتِصَابُ صِرَاطًا: عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِلْفِعْلِ الْمَذْكُورِ وَقِيلَ: عَلَى الْحَالِ.

وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ

لَنْ يَسْتَكْبِرَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، وَالْإِسْمَاعِيلِيُّ فِي مُعْجَمِهِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ قَالَ: أُجُورُهُمْ:

يُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ: الشَّفَاعَةُ فِيمَنْ وَجَبَتْ لَهُ النَّارَ مِمَّنْ صَنَعَ إِلَيْهِمُ الْمَعْرُوفَ فِي الدُّنْيَا. وَقَدْ

<<  <  ج: ص:  >  >>