للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي إِذَا أَكَلْتُ اللَّحْمَ انْتَشَرْتُ لِلنِّسَاءِ وَأَخَذَتْنِي شَهْوَةٌ، وَإِنِّي حرّمت عليّ اللحم، فنزلت: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَقَدْ رُوِيَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مُرْسَلًا، وَرُوِيَ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: نَزَلَتْ فِي رَهْطٍ مِنَ الصَّحَابَةِ قَالُوا: نَقْطَعُ مَذَاكِيرَنَا وَنَتْرُكُ شَهَوَاتِ الدُّنْيَا وَنَسِيحُ فِي الْأَرْضِ كَمَا يَفْعَلُ الرُّهْبَانُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ فَذَكَرَ لَهُمْ ذَلِكَ، فَقَالُوا: نعم، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم:

«لكني أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأُصَلِّي وَأَنَامُ وَأَنْكِحُ النِّسَاءَ، فَمَنْ أَخَذَ بِسُنَّتِي فَهُوَ مِنِّي، وَمَنْ لَمْ يَأْخُذْ بِسُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» . وَقَدْ ثَبَتَ نَحْوُ هَذَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ دُونِ ذِكْرِ أَنَّ ذلك سبب نزول الآية. وأخرج عبد ابن حُمَيْدٍ وَأَبُو دَاوُدَ فِي الْمَرَاسِيلِ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي مَالِكٍ أَنَّ هَؤُلَاءِ الرَّهْطَ: هُمْ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ وَأَصْحَابُهُ، وَفِي الْبَابِ رِوَايَاتٌ كَثِيرَةٌ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَكَثِيرٌ مِنْهَا مُصَرِّحٌ بِأَنَّ ذَلِكَ سَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ ضَافَهُ ضَيْفٌ مِنْ أَهْلِهِ وَهُوَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ، فَوَجَدَهُمْ لَمْ يُطْعِمُوا ضَيْفَهُمُ انْتِظَارًا لَهُ، فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: حَبَسْتِ ضَيْفِي مِنْ أَجْلِي، هُوَ حَرَامٌ عَلَيَّ، فَقَالَتِ امْرَأَتُهُ: هُوَ حَرَامٌ عَلَيَّ، فَقَالَ الضَّيْفُ: هُوَ حَرَامٌ عَلَيَّ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ وَضَعَ يَدَهُ وَقَالَ: كُلُوا بِسْمِ اللَّهِ، ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ أصبت» ، فأنزل الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَهَذَا أَثَرٌ مُنْقَطِعٌ، وَلَكِنْ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ فِي قِصَّةِ الصِّدِّيقِ مَعَ أَضْيَافِهِ مَا هُوَ شَبِيهٌ بِهَذَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ فَجِيءَ بِضَرْعٍ، فَتَنَحَّى رَجُلٌ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ: ادْنُ، فَقَالَ: إِنِّي حَرَّمْتُ أَنْ آكُلَهُ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: ادْنُ فَاطْعَمْ وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ، وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، وَقَالَ: صَحِيحٌ على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

[[سورة المائدة (٥) : آية ٨٩]]

لَا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٨٩)

قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ اللَّغْوِ، والخلاف فيه، في سورة البقرة، وفِي أَيْمانِكُمْ صلة يُؤاخِذُكُمُ. قيل وفِي بِمَعْنَى مِنْ، وَالْأَيْمَانُ جَمْعُ يَمِينٍ. وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَيْمَانَ اللَّغْوِ لَا يُؤَاخِذُ الله الحالف بها ولا تجب فيها الْكَفَّارَةُ. وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ إِلَى أَنَّهَا قَوْلُ الرَّجُلِ: لَا وَاللَّهِ وَبَلَى وَاللَّهِ فِي كَلَامِهِ غَيْرُ مُعْتَقِدٍ لِلْيَمِينِ، وَبِهِ فَسَّرَ الصَّحَابَةُ الْآيَةَ وَهُمْ أَعْرَفُ بِمَعَانِي الْقُرْآنِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَذَلِكَ عِنْدَ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ والعجلة بقوله: وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ قُرِئَ بِتَشْدِيدِ عَقَّدْتُمُ وَبِتَخْفِيفِهِ، وَقُرِئَ عَاقَدْتُمْ. وَالْعَقْدُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: حِسِّيٌّ كَعَقْدِ الْحَبْلِ، وَحُكْمِيٌّ كَعَقْدِ الْبَيْعِ، وَالْيَمِينِ والعهد.

قال الشاعر «١» .


(١) . هو الحطيئة.

<<  <  ج: ص:  >  >>