للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَوْلُهُ: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ، أَيْ: وَاسْأَلْهُمْ وَقْتَ تَأَذَّنَ رَبُّكَ، وَتَأَذَّنَ: تَفَعَّلَ، مِنِ الْإِيذَانِ، وَهُوَ الْإِعْلَامُ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: آذَنَ بِالْمَدِّ: أَعْلَمَ، وَأَذَّنَ بِالتَّشْدِيدِ: نَادَى. وَقَالَ قَوْمٌ:

كِلَاهُمَا بِمَعْنَى أَعْلَمَ كَمَا يُقَالُ أَيْقَنَ وَتَيَقَّنَ. وَالْمَعْنَى فِي الْآيَةِ: وَاسْأَلْهُمْ وَقْتَ أَنْ وَقَعَ الْإِعْلَامُ لَهُمْ مِنْ رَبِّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ قِيلَ: وَفِي هَذَا الْفِعْلِ مَعْنَى الْقَسَمِ كَعَلِمَ اللَّهُ وَشَهِدَ اللَّهُ، وَلِذَلِكَ أُجِيبُ بِمَا يُجَابُ بِهِ الْقَسَمُ حَيْثُ قَالَ: لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ أَيْ: لَيُرْسِلَنَّ عَلَيْهِمْ وَيُسَلِّطَنَّ كَقَوْلِهِ: بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ «١» ، إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ غَايَةً لِسَوْمِهِمْ سُوءَ الْعَذَابِ ممن يبعثه الله عليهم، وقد كانوا أبقاهم اللَّهُ هَكَذَا أَذِلَّاءَ مُسْتَضْعَفِينَ مُعَذَّبِينَ بِأَيْدِي أَهْلِ الْمِلَلِ، وَهَكَذَا هُمْ فِي هَذِهِ الْمِلَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ فِي كُلِّ قُطْرٍ مِنْ أَقْطَارِ الْأَرْضِ فِي الذِّلَّةِ الْمَضْرُوبَةِ عَلَيْهِمْ وَالْعَذَابِ وَالصَّغَارِ، يُسَلِّمُونَ الْجِزْيَةَ بِحَقْنِ دِمَائِهِمْ وَيَمْتَهِنُهُمُ الْمُسْلِمُونَ فِيمَا فِيهِ ذِلَّةٌ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي يَتَنَزَّهُ عَنْهَا غَيْرُهُمْ مِنْ طَوَائِفِ الْكُفَّارِ. وَمَعْنَى يَسُومُهُمْ يُذِيقُهُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ أَصْلِ مَعْنَاهُ، ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ يُعَاجِلُ بِهِ فِي الدنيا كما وقع لهؤلاء وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ أَيْ: كَثِيرُ الْغُفْرَانِ وَالرَّحْمَةِ وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أَيْ: فَرَّقْنَاهُمْ فِي جَوَانِبِهَا، أَوْ شَتَّتْنَا أَمْرَهُمْ فَلَمْ تَجْتَمِعْ لَهُمْ كَلِمَةٌ، وأُمَماً مُنْتَصِبٌ عَلَى الْحَالِ، أَوْ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِقَطَّعْنَا عَلَى تَضْمِينِهِ مَعْنَى صَيَّرْنَا، وَجُمْلَةُ مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ بَدَلٌ مِنْ أُمَماً، قِيلَ: هُمُ الَّذِينَ آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَنْ مَاتَ قَبْلَ الْبِعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ غَيْرَ مُبَدِّلٍ، وَقِيلَ: هُمُ الَّذِينَ سَكَنُوا وَرَاءَ الصِّينِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ قَبْلَ هَذَا وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ أَيْ:

دُونَ هَذَا الْوَصْفِ الَّذِي اتَّصَفَتْ بِهِ الطَّائِفَةُ الْأُولَى وَهُوَ الصَّلَاحُ، وَمَحَلُّ دُونَ ذلِكَ الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: وَمِنْهُمْ أُنَاسٌ دُونَ ذَلِكَ، وَالْمُرَادُ بِهَؤُلَاءِ: هُمْ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ، بَلِ انْهَمَكَ فِي الْمُخَالَفَةِ لِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ. قَالَ النَّحَّاسُ: دُونَ مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا رَفَعَهُ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ أَيِ: امْتَحَنَّاهُمْ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ رَجَاءَ أَنْ يَرْجِعُوا مِمَّا هُمْ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ الْمُرَادُ بِهِمْ أَوْلَادُ الَّذِينَ قَطَّعَهُمُ اللَّهُ فِي الْأَرْضِ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: الْخَلْفُ بِسُكُونِ اللَّامِ: الْأَوْلَادُ، الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ سَوَاءٌ. وَالْخَلَفُ بِفَتْحِ اللَّامِ: الْبَدَلُ ولدا كان أو غيره. قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الْخَلَفُ بِالْفَتْحِ: الصَّالِحُ، وَبِالسُّكُونِ: الطَّالِحُ. قَالَ لَبِيَدٌ:

ذَهَبَ الَّذِينَ يُعَاشُ فِي أَكْنَافِهِمْ ... وَبَقِيتُ فِي خَلْفٍ كَجِلْدِ الْأَجْرَبِ

وَمِنْهُ قِيلَ لِلرَّدِيءِ مِنَ الْكَلَامِ خَلْفٌ بِالسُّكُونِ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَوْضِعَ الْآخَرِ، وَمِنْهُ قَوْلُ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ:

لَنَا الْقَدَمُ الْأُولَى إِلَيْكَ وَخَلْفُنَا ... لِأَوَّلِنَا فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَابِعُ

وَرِثُوا الْكِتابَ أَيِ: التَّوْرَاةَ مِنْ أَسْلَافِهِمْ يَقْرَءُونَهَا وَلَا يَعْمَلُونَ بِهَا يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى


(١) . الإسراء: ٥. [.....]

<<  <  ج: ص:  >  >>