للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَأْخُذَ الْعَفْوَ مِنْ أَخْلَاقِهِمْ، يُقَالُ: أَخَذْتُ حَقِّي عَفْوًا: أَيْ سَهْلًا، وَهَذَا نَوْعٌ مِنَ التَّيْسِيرِ الَّذِي كَانَ يَأْمُرُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «يَسِّرُّوا وَلَا تُعَسِّرُوا وَبَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا» ، وَالْمُرَادُ بِالْعَفْوِ هُنَا: ضِدُّ الْجَهْدِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ خُذِ الْعَفْوَ مِنْ صَدَقَاتِهِمْ وَلَا تُشَدِّدْ عَلَيْهِمْ فِيهَا، وَتَأْخُذَ مَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ، وَكَانَ هَذَا قَبْلَ نُزُولِ فَرِيضَةِ الزَّكَاةِ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ أَيْ: بِالْمَعْرُوفِ. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ بِالْعُرْفِ بِضَمَّتَيْنِ، وَهُمَا لُغَتَانِ، وَالْعُرْفُ وَالْمَعْرُوفُ وَالْعَارِفَةُ: كُلُّ خَصْلَةٍ حَسَنَةٍ تَرْتَضِيهَا الْعُقُولُ وَتَطْمَئِنُّ إِلَيْهَا النُّفُوسُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

مَنْ يَفْعَلِ الْخَيْرَ لَا يَعْدَمْ جَوَازَيْهِ ... لَا يَذْهَبُ الْعُرْفُ بَيْنَ اللَّهِ وَالنَّاسِ

وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ أَيْ: إِذَا أَقَمْتَ الْحُجَّةَ فِي أَمْرِهِمْ بِالْمَعْرُوفِ فَلَمْ يَفْعَلُوا، فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَلَا تُمَارِهِمْ، وَلَا تُسَافِهْهُمْ مُكَافَأَةً لِمَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ مَنِ الْمِرَاءِ وَالسَّفَاهَةِ قِيلَ: وَهَذِهِ الْآيَةُ هِيَ مِنْ جُمْلَةِ مَا نُسِخَ بِآيَةِ السَّيْفِ، قَالَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ وَعَطَاءٌ وَقِيلَ: هِيَ مُحْكَمَةٌ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ. قَوْلُهُ: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ النَّزْغُ: الْوَسْوَسَةُ، وَكَذَا النَّغْزُ وَالنَّخْسُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: النَّزْغُ: أَدْنَى حَرَكَةٍ تَكُونُ، وَمِنَ الشَّيْطَانِ: أَدْنَى وَسْوَسَةٍ، وَأَصْلُ النَّزْغِ: الْفَسَادُ، يُقَالُ نَزَغَ بَيْنَنَا: أَيْ أَفْسَدَ، وَقِيلَ: النَّزْغُ: الْإِغْوَاءُ، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ، أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَدْرَكَ شَيْئًا مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ أَنْ يَسْتَعِيذَ بِاللَّهِ وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ خُذِ الْعَفْوَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَيْفَ يَا رَبِّ بِالْغَضَبِ» ؟ فَنَزَلَتْ، وَجُمْلَةُ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ عِلَّةٌ لِأَمْرِهِ بِالِاسْتِعَاذَةِ، أَيِ: اسْتَعِذْ بِهِ، وَالْتَجِئْ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ يَسْمَعُ ذَلِكَ مِنْكَ وَيَعْلَمُ بِهِ، وَجُمْلَةُ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا مُقَرِّرَةٌ لِمَضْمُونِ مَا قَبْلَهَا، أَيْ: إِنَّ شَأْنَ الَّذِينَ يَتَّقُونَ اللَّهَ وَحَالَهُمْ هُوَ التَّذَكُّرُ لِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الِاسْتِعَاذَةِ بِهِ وَالِالْتِجَاءِ إِلَيْهِ عِنْدَ أَنْ يَمَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا. قَرَأَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ طَيْفٌ وَكَذَا أَهْلُ مَكَّةَ. وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالْكُوفَةِ طائِفٌ. وَقَرَأَ سَعِيدُ ابن جُبَيْرٍ طَيِّفٌ بِالتَّشْدِيدِ. قَالَ النَّحَّاسُ: كَلَامُ الْعَرَبِ فِي مِثْلِ هَذَا طَيْفٌ بِالتَّخْفِيفِ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مَنْ طَافَ يَطِيفُ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: هُوَ مُخَفَّفٌ مِثْلُ مَيِّتٍ وَمَيْتٍ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَمَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ مَا يُتَخَيَّلُ فِي الْقَلْبِ، أَوْ يُرَى فِي النَّوْمِ، وَكَذَا مَعْنَى طَائِفٍ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: سَأَلْتُ الْأَصْمَعِيَّ عَنْ طَيِّفٍ فَقَالَ: لَيْسَ فِي الْمَصَادِرِ فَيْعِلٌ. قَالَ النَّحَّاسُ: لَيْسَ هُوَ مَصْدَرًا وَلَكِنْ يَكُونُ بِمَعْنَى طَائِفٍ وَقِيلَ: الطَّيْفُ وَالطَّائِفُ مَعْنَيَانِ مُخْتَلِفَانِ، فَالْأَوَّلُ التَّخَيُّلُ، وَالثَّانِي الشَّيْطَانُ نَفْسُهُ فَالْأَوَّلُ مِنْ طَافَ الْخَيَالُ يَطُوفُ طَيْفًا، وَلَمْ يَقُولُوا مِنْ هَذَا طَائِفٌ. قَالَ السُّهَيْلِيُّ: لِأَنَّهُ تَخَيُّلٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، فَأَمَّا قوله فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ «١» فَلَا يُقَالُ فِيهِ طَيْفٌ لِأَنَّهُ اسْمُ فَاعِلٍ حَقِيقَةً. قَالَ الزَّجَّاجُ: طُفْتُ عَلَيْهِمْ أَطُوفُ، فَطَافَ الْخَيَالُ يَطِيفُ. قَالَ حَسَّانٌ:

فَدَعْ هَذَا وَلَكِنْ مَنْ لَطَيْفٍ ... يُؤَرِّقُنِي إِذَا ذَهَبَ الْعِشَاءُ

وَسُمِّيَتِ الْوَسْوَسَةُ طَيْفًا، لِأَنَّهَا لَمَّةٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تُشْبِهُ لَمَّةَ الْخَيَالِ فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ بِسَبَبِ التَّذَكُّرِ أَيْ: مُنْتَبِهُونَ، وَقِيلَ: عَلَى بَصِيرَةٍ. وَقَرَأَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ تَذَكَّرُوا بِتَشْدِيدِ الذَّالِ. قَالَ النَّحَّاسُ: ولا


(١) . القلم: ١٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>