للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بِقَتْلِهِمْ وَالتَّنْكِيلِ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ مِنَ الْمُحَارِبِينَ لَكَ مَنْ أَهْلِ الشِّرْكِ، حَتَّى يَهَابُوا جَانِبَكَ، وَيَكُفُّوا عَنْ حَرْبِكَ، مَخَافَةَ أَنْ يَنْزِلَ بِهِمْ مَا نَزَلْ بِهَؤُلَاءِ. وَالثِّقَافُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ: مَا يُشَدُّ بِهِ الْقَنَاةُ أَوْ نَحْوُهَا، وَمِنْهُ قول النابغة:

تدعو قعينا وقد عضّ الحديد بها ... عضّ الثِّقَافِ عَلَى ضَمِّ الْأَنَابِيبِ

يُقَالُ ثَقَفْتُهُ: وَجَدْتُهُ، وَفُلَانٌ ثَقِفٌ: سَرِيعُ الْوُجُودِ لِمَا يُحَاوِلُهُ، وَالتَّشْرِيدُ: التَّفْرِيقُ مَعَ الِاضْطِرَابِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ فَشَرِّدْ بِهِمْ سَمِّعْ بِهِمْ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: افْعَلْ بِهِمْ فِعْلًا مِنَ الْقَتْلِ تُفَرِّقُ بِهِ مَنْ خَلْفَهُمْ، يُقَالُ شَرَّدْتُ بَنِي فُلَانٍ: قَلَعْتُهُمْ عَنْ مَوَاضِعِهِمْ، وَطَرَدْتُهُمْ عَنْهَا، حَتَّى فَارَقُوهَا. قَالَ الشَّاعِرُ:

أَطُوفُ في الأباطح كلّ يوم ... مخافة أن يشرّد بي حَكِيمٌ

وَمِنْهُ شَرَدَ الْبَعِيرُ: إِذَا فَارَقَ صَاحِبَهُ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَرَأَ فَشَرِّذْ بِهِمْ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ.

قَالَ قُطْرُبٌ: التَّشْرِيذُ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ: هُوَ التَّنْكِيلُ، وَبِالْمُهْمَلَةِ: هُوَ التَّفْرِيقُ. وَقَالَ المهدوي: الذَّالُ الْمُعْجَمَةُ لَا وَجْهَ لَهَا إِلَّا أَنْ تَكُونَ بَدَلًا مِنَ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ لِتَقَارُبِهِمَا. قَالَ: ولا يعرف فشرّذ فِي اللُّغَةِ، وَقُرِئَ مَنْ خَلْفَهُمْ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَالْفَاءِ. قَوْلُهُ وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً أَيْ غِشًّا وَنَقْضًا لِلْعَهْدِ مِنَ الْقَوْمِ الْمُعَاهِدِينَ فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ أَيْ: فَاطْرَحْ إِلَيْهِمُ الْعَهْدَ الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ عَلى سَواءٍ عَلَى طَرِيقٍ مُسْتَوِيَةٍ. وَالْمَعْنَى:

أَنَّهُ يُخْبِرُهُمْ إِخْبَارًا ظَاهِرًا مَكْشُوفًا بِالنَّقْضِ وَلَا يُنَاجِزُهُمُ الْحَرْبَ بَغْتَةً وَقِيلَ: مَعْنَى: عَلى سَواءٍ عَلَى وَجْهٍ يَسْتَوِي فِي الْعِلْمِ بِالنَّقْضِ أَقْصَاهُمْ وَأَدْنَاهُمْ، أَوْ تَسْتَوِي أَنْتَ وَهُمْ فِيهِ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: السَّوَاءُ الْعَدْلُ، وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الوسط، ومنه قوله فِي سَواءِ الْجَحِيمِ «١» ، وَمِنْهُ قَوْلُ حَسَّانٍ:

يَا وَيْحَ أَنْصَارِ النَّبِيِّ وَرَهْطِهِ ... بَعْدَ الْمُغَيَّبِ فِي سَوَاءِ الْمُلْحَدِ

وَمِنَ الْأَوَّلِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

فَاضْرِبْ وُجُوهَ الْغُدَّرِ الْأَعْدَاءِ ... حتّى يجيبوك إلى السّواء

وَقِيلَ: مَعْنَى: فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ عَلَى جَهْرٍ، لَا عَلَى سِرٍّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مُعَاهِدٍ يُخَافُ مِنْ وُقُوعِ النَّقْضِ مِنْهُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ، أَنَّ أَمْرَ بَنِي قُرَيْظَةَ انْقَضَى عِنْدَ قَوْلِهِ: فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ ثُمَّ ابْتَدَأَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَأْمُرُهُ بِمَا يَصْنَعُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مَعَ مَنْ يَخَافُ مِنْهُ خِيَانَةً، وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخائِنِينَ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا، يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ تَحْذِيرًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمُنَاجَزَةِ قَبْلَ أَنْ يَنْبِذَ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ عَائِدَةً إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ تُخَافُ مِنْهُمُ الْخِيَانَةُ.

قَوْلُهُ ولا تحسبن قرأ ابن عامر ويزيد وحمزة وَحَفْصٌ بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقُ. فَعَلَى الْقِرَاءَةِ الْأَوْلَى يَكُونُ الَّذِينَ كَفَّرُوا: فَاعِلَ الْحُسْبَانِ، وَيَكُونُ مَفْعُولُهُ الْأَوَّلُ: مَحْذُوفًا، أَيْ: لَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْفُسَهُمْ، وَمَفْعُولُهُ الثَّانِي: سَبَقُوا، وَمَعْنَاهُ: فَاتُوا وَأَفْلَتُوا مِنْ أَنْ يُظْفَرَ بِهِمْ. وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ: يَكُونُ الْخِطَابُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَفْعُولُهُ الْأَوَّلُ: الَّذِينَ كَفَرُوا، وَالثَّانِي: سَبَقُوا، وَقُرِئَ: إِنَّهُمْ سَبَقُوا وقرئ يحسبن بكسر الياء، وَجُمْلَةُ إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا، أي: إنهم لا يفوتون، ولا


(١) . الصافات: ٥٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>