للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

جَوَانِحُ قَدْ أَيْقَنَّ أَنَّ قَبِيلَهُ ... إِذَا مَا الْتَقَى الْجَمْعَانِ أَوَّلَ غَالِبٍ

يَعْنِي: الطَّيْرَ، وَالسَّلْمُ: الصُّلْحُ. قَرَأَ الْأَعْمَشُ وَأَبُو بَكْرٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَالْمُفَضَّلُ بِكَسْرِ السِّينِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا. وَقَرَأَ الْعُقَيْلِيُّ فَاجْنَحْ بِضَمِّ النُّونِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا. وَالْأُولَى: لُغَةُ قَيْسٍ، وَالثَّانِيَةُ: لُغَةُ تَمِيمٍ. قَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ: وَلُغَةُ قَيْسٍ: هِيَ الْقِيَاسُ، وَالسَّلْمُ تُؤَنَّثُ كَمَا تُؤَنَّثُ الْحَرْبُ، أَوْ هِيَ مُؤَوَّلَةٌ بِالْخَصْلَةِ، أَوِ الْفِعْلَةِ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ هَلْ هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ أَمْ مُحْكَمَةٌ؟ فَقِيلَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ وَقِيلَ: لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا قَبُولُ الْجِزْيَةِ، وَقَدْ قَبِلَهَا مِنْهُمُ الصَّحَابَةُ فَمَنْ بَعْدَهُمْ، فَتَكُونُ خَاصَّةً بِأَهْلِ الْكِتَابِ وَقِيلَ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ إِنْ دَعَوْا إِلَى الصُّلْحِ جَازَ أَنْ يُجَابُوا إِلَيْهِ، وَتَمَسَّكَ الْمَانِعُونَ مِنْ مُصَالَحَةِ الْمُشْرِكِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ «١» وَقَيَّدُوا عَدَمَ الْجَوَازِ بِمَا إِذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ فِي عِزَّةٍ وَقُوَّةٍ، لَا إِذَا لَمْ يَكُونُوا كَذَلِكَ، فَهُوَ جَائِزٌ، كَمَا وَقَعَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مُهَادَنَةِ قُرَيْشٍ، وَمَا زَالَتِ الْخُلَفَاءُ وَالصَّحَابَةُ عَلَى ذَلِكَ، وَكَلَامُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَعْرُوفٌ، مُقَرَّرٌ فِي مَوَاطِنِهِ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فِي جُنُوحِكَ لِلسَّلْمِ وَلَا تَخَفْ مِنْ مَكْرِهِمْ، فَ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ السَّمِيعُ لِمَا يَقُولُونَ الْعَلِيمُ بِمَا يَفْعَلُونَ وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ بِالصُّلْحِ، وَهُمْ مُضْمِرُونَ الْغَدْرَ وَالْخَدْعَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ أَيْ: كَافِيَكَ مَا تَخَافُهُ مِنْ شُرُورِهِمْ بِالنَّكْثِ وَالْغَدْرِ، وَجُمْلَةُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ تَعْلِيلِيَّةٌ، أَيْ: لَا تَخَفْ مِنْ خَدْعِهِمْ وَمَكْرِهِمْ فَإِنَّ اللَّهَ الَّذِي قَوَّاكَ عَلَيْهِمْ بِالنَّصْرِ فِيمَا مَضَى، وَهُوَ يَوْمُ بَدْرٍ، هُوَ الَّذِي سَيَنْصُرُكَ، وَيُقَوِّيكَ عَلَيْهِمْ عِنْدَ حُدُوثِ الْخَدْعِ وَالنَّكْثِ، وَالْمُرَادُ بِالْمُؤْمِنِينَ: الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ، ثُمَّ بَيَّنَ كَيْفَ كَانَ تَأْيِيدُهُ بِالْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَظَاهِرُهُ الْعُمُومُ، وَأَنَّ ائْتِلَافَ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، هُوَ مِنْ أَسْبَابِ النَّصْرِ الَّتِي أَيَّدَ اللَّهُ بِهَا رَسُولَهُ. وَقَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: الْمُرَادُ: الْأَوْسُ، وَالْخَزْرَجُ، فَقَدْ كَانَ بَيْنَهُمْ عَصَبِيَّةٌ شَدِيدَةٌ، وَحُرُوبٌ عَظِيمَةٌ، فَأَلَّفَ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ بِالْإِيمَانِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيلَ: أَرَادَ التَّأْلِيفَ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَالْحَمْلُ عَلَى الْعُمُومِ أَوْلَى، فَقَدْ كَانَتِ الْعَرَبُ قَبْلَ الْبِعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ يَأْكُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلَا يَحْتَرِمُ مَالَهُ، وَلَا دَمَهُ، حَتَّى جَاءَ الْإِسْلَامُ، فَصَارُوا يَدًا وَاحِدَةً، وَذَهَبَ مَا كَانَ بَيْنَهُمْ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ، وَجُمْلَةُ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ مُقَرِّرَةٌ لِمَضْمُونِ مَا قَبْلَهَا.

وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَا كَانَ بَيْنَهُمْ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ وَالْعَدَاوَةِ، قَدْ بَلَغَ إِلَى حَدٍّ لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، وَلَوْ أَنْفَقَ الطَّالِبُ لَهُ جَمِيعَ مَا فِي الْأَرْضِ لَمْ يَتِمَّ لَهُ مَا طَلَبَهُ مِنَ التَّأْلِيفِ، لِأَنَّ أَمْرَهُمْ فِي ذَلِكَ قَدْ تَفَاقَمَ جِدًّا وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ بِعَظِيمِ قُدْرَتِهِ وَبَدِيعِ صُنْعِهِ إِنَّهُ عَزِيزٌ لَا يُغَالِبُهُ مُغَالِبٌ، وَلَا يَسْتَعْصِي عَلَيْهِ أَمْرٌ مِنَ الْأُمُورِ حَكِيمٌ فِي تَدْبِيرِهِ وَنُفُوذِ نَهْيِهِ وَأَمْرِهِ.

وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ قَالَ: قُرَيْظَةُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ فِي الْآيَةِ قَالَ: نَزَلَتْ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، نَسَخَتْهَا فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ إلى


(١) . محمد: ٣٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>