للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد واعبدوني مثل عبادته أم اتخذوك أولئك المسرفون المفرطون الها من تلقاء أنفسهم قالَ عيسى منزها لله مبعدا نفسه عن أمثاله سُبْحانَكَ اى انزهك تنزيها بليغا عن ان يكون لك شريك ما يَكُونُ وكيف يصح ويليق لِي أَنْ أَقُولَ ما اى قولا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ لائق جائز ان أقول به بل ادوره في خلدي سيما بعد كمال لطفك وإحسانك الى ونهاية فضلك وامتنانك على يا رب وبالجملة إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ اى هذا القول او عزمت عليه حلية او اجلته في صدري فَقَدْ عَلِمْتَهُ البتة يا ربي إذ تَعْلَمُ أنت بعلمك الحضوري عموم ما فِي نَفْسِي وَانا لا أَعْلَمُ شيأ من ما فِي نَفْسِكَ من مقتضيات ذاتك وصفاتك وأسمائك وكمالات شئونك وتجلياتك الا ما علمتني إِنَّكَ أَنْتَ وحدك بخصوصيتك عَلَّامُ الْغُيُوبِ لا احد غيرك يعلم غيبك وانما خاطبه سبحانه بما خاطبه وعاتبه بما عاتبه مع ان الأمر كله معلوم عنده مكشوف لديه حاضر دونه ليوبخ ويقرع على الغالين المتخذين لعلهم يتنبهون بسوء صنيعهم وقبح معاملتهم مع الله المتوحد المتفرد المنزه بذاته عن الأهل والولد الصمد المقدس الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا احد

ثم بسط عيسى عليه السّلام الكلام مع ربه تشفيا وتشوقا فقال ما قُلْتُ لَهُمْ يا ربي قولا إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ وبتبليغه وإيصاله إليهم وهو أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ الواحد الأحد الصمد الفرد الوتر الذي هو رَبِّي قد أوجدني من كتم العدم ورباني بأنواع اللطف والكرم وَرَبَّكُمْ ايضا أوجدكم من العدم مثلي ورباكم كذلك فيكون نسبة إيجاده سبحانه وتربيته على وعليكم على السواء إذ ما ترى من تفاوت في خلقه وَقد كُنْتُ يا ربي بمقتضى أمرك ووحيك وارسالك عَلَيْهِمْ شَهِيداً حاضرا حافظا احفظهم بتوفيقك عن أمثال هذه الهذيانات الباطلة ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي ورفعتني بجودك من حضيض عالم الناسوت الى ما رفعتني من حظائر عالم لاهوتك كُنْتُ بذاتك وأسمائك واوصافك كما كنت قبل ذلك أَنْتَ الرَّقِيبَ المحافظ عَلَيْهِمْ المتولى لأمورهم اصالة وتضلهم وتهديهم وترشدهم وتغويهم وَبالجملة أَنْتَ وان تنزهت وتقدست في ذاتك عن عموم الأمكنة والأكوان عَلى كُلِّ شَيْءٍ قدير من الأمور الكائنة فيها شَهِيدٌ حاضر غير مغيب إذ لا يجرى في ملكك وملكوتك الا ما تشاء حسب شئونك وتجلياتك المترتبة على أسمائك وصفاتك

وبالجملة إِنْ تُعَذِّبْهُمْ عدلا منك فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ فلك ان تتصرف فيهم على اى وجه تتعلق ارادتك ومشيتك به وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فضلا وطولا فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الغالب القادر على عموم الانعام والانتقام الْحَكِيمُ المتقن في إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي ومنعه عنه بلا مشاركة ولا مظاهرة. ثم لما بث وبسط عيسى عليه السّلام مع الله الكلام وبالغ في التفويض والتسليم والرجوع اليه سبحانه في عموم الأمور سيما في امر قومه

قالَ اللَّهُ المطلع لعموم ما في استعدادات عباده ولجميع ما يئول اليه عواقب أمورهم مناديا يا عيسى هذا اى يوم الجزاء المعد للعرض والحساب وتنقيد الأعمال يوم لا يكتسب فيه الخير ولا يستجلب النفع ولا يدفع الضر بل يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ اى الذين صدقوا في النشأة الاولى صِدْقُهُمْ السابق فيها لَهُمْ اى لأولئك الصادقين السابقين في هذه النشأة الاخرى التي هي نشأة الجزاء جَنَّاتٌ اى منتزهات المعارف والحقائق تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ مملوة بمياه العلوم اللدنية التي هي عبارة عن المكاشفات والمشاهدات المثمرة للحياة الازلية الابدية والبقاء

<<  <  ج: ص:  >  >>