للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

البتة مِنَ المسرفين المفرطين الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ الدالة على كمال قدرته ومتانة علمه وحكمته فَتَكُونَ أنت حينئذ مع علو شأنك وسمو برهانك مِنَ الْخاسِرِينَ الساقطين عن مرتبة الخلافة النازلين عن درجة ارباب المعرفة والتوحيد وأمثال هذه الخطابات من الله العليم الحكيم لحبيبه الذي قد ظهر على الخلق العظيم وتمكن على الصراط المستقيم انما هي حث وترغيب للمؤمنين على ملازمة كتاب الله ومحافظة أوامره ونواهيه وتثبيت لهم في ايمانهم وتصديقهم

إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ اى ثبتت وجرت عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ يا أكمل الرسل في سابق علمه ولوح قضائه بكفرهم وشركهم لا يُؤْمِنُونَ بدعوتك وتبليغك إليهم الآيات الرادعة الزاجرة والبراهين الساطعة القاطعة

بل وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ مقترحة لهم منك لم يؤمنوا بك لشدة شكيمتهم معك وكثافة غشاوتهم حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ المعد لهم من عند الله العزيز العليم فاعرض عنهم يا أكمل الرسل ودعهم وأمرهم فانا ننتقم منهم

فَلَوْلا وهلا كانَتْ قَرْيَةٌ من القرى الهالكة التي قد أخذوا بظلمهم آمَنَتْ حين حلول العذاب عليهم ولاح اماراته دونهم مثل ما آمن فرعون حين غشيه اليم فَنَفَعَها في تلك الحالة الملجئة إِيمانُها ونجى به عن العذاب إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا حين عاينوا بحلول العذاب وظهر عليهم علامات الغضب الإلهي وأخلصوا لله مخبتين خاضعين خاشعين قد كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ الذي هم يفتضحون بسببه فِي الْحَياةِ الدُّنْيا لو لم نكشف وَبعد ما كشفنا العذاب عنهم قد مَتَّعْناهُمْ بأنواع التمتع وصيرناهم مترفهين إِلى حِينٍ حلول آجالهم المقدرة وذلك انه لما بعث يونس عليه السّلام الى نينوى هي قرية من قرى الموصل كذبوه واستهزؤا به فوعدهم بالعذاب بعد ثلثين او أربعين فلما قرب الوعد الموعود خرج من الأفق سحاب غليظ وغيم اسود ودخان مظلم شديد فغشى قريتهم فهابوا هيبة عظيمة فطلبوا يونس فلم يجدوه فأيقنوا صدقه وهموا الى الانابة والتضرع فلبسوا المسوح وخرجوا نحو الصحارى بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابهم وفرقوا بين والدة وولدها وحن بعضها الى بعض فصاحوا وصرخوا وتضرعوا الى حيث قد علت الأصوات واختلطت الضجيج وأظهروا الندامة وأخلصوا التوبة والانابة فرحمهم الله وكشف عنهم وكان يوم عاشوراء يوم الجمعة ولا تستبعد يا أكمل الرسل مثل هذه الألطاف من الله الغفور الرّحيم

وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ وتعلقت ارادته بإيمان من على الأرض لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ بحيث لم يبق على وجه الأرض كافر أصلا بل يؤمنون جَمِيعاً مجتمعين بلا اختلاف وتفرقة لكن قضية الحكمة تقتضي الخلاف والاختلاف والكفر والايمان والحق والباطل والهداية والضلال ليظهر سرائر التكاليف والتحميلات الواردة من الله على السنة رسله وكتبه وكذا سر المجازاة في النشأة الاخرى وحكمة خلق الجنة والنار وجميع الأمور الاخروية والمعتقدات الدينية ومتى جرت حكمة الله على هذا أَفَأَنْتَ يا أكمل الرسل من حرصك على تكثير المؤمنين تُكْرِهُ النَّاسَ وتلجئهم الى الايمان حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ جميعا مع ان بعضهم مجبولون على كفرهم ولم يتعلق ارادة الله ومشيئته بايمانهم

وَبالجملة ما كانَ لِنَفْسٍ اى ما تيسر لها وما وسع في وسعها وطاقتها أَنْ تُؤْمِنَ بالله باختيارها إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وتوفيقه واقداره إذ لا حول ولا قوة الا بالله. وافعال العباد كلها مستندة الى الله ناشئة من مشيئته اصالة ومادام لم تتعلق مشيئته لم يحدث حادث من الحوادث الكائنة فعليك يا أكمل الرسل ان لا تتعب نفسك في هداية من أراد الله إضلاله وضلاله وبالجملة انك لا تهدى من أحببت فكيف سعيت واجتهدت

<<  <  ج: ص:  >  >>