للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إِنَّ رَسُولَكُمُ سماه رسولا تهكما واستهزاء الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لإرشادكم وإصلاحكم لَمَجْنُونٌ لا يتكلم بالمقابلة بل يتفوه كيف ما اتفق بلا تأمل وتدرب بأسلوب الكلام إذ قد سألته عن حقيقة شيء ما أجاب عنه بل أجاب عن أشياء لا أسألها وبعد ما لم يتنبهوا بالتنبيهات المذكورة بل ما زادوا منها الا خبالا غب خبال وإنكارا فوق انكار وبالغوا فيه الى حيث نسبوه الى الخبط والجنون وبعد ما قد عتوا عتوا كبيرا

قالَ موسى كلاما جمليا كليا مشتملا على عموم الأمور المنبهة بما هو له سبحانه رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما اى هو بذاته مشرق الشمس ومديرها كل يوم بمدار مخصوص ومغيبها كذلك تتميما وتدبيرا لمصالح عباده وجميع حوائجهم المتعلقة بمعاشهم على الوجه الأحكم الأبلغ الأعدل بلا فوت شيء منها إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ وتطرحون عقولكم الى التأمل والنظر في عجائب مصنوعاته وغرائب مخترعاته في كيفية تدبيراته في ابدائه وإنشائه وابقائه وافنائه وكذا في جميع الأمور المتعلقة بألوهيته وربوبيته وان اجتهدتم وسعيتم حق السعى والجهد في شأنه لاهتديتم الى وحدة ذاته ووجوب وجوده واستقلاله بالتصرف في مظاهره ومصنوعاته فحينئذ لم يبق لكم شائبة شك في ذاته سبحانه حتى تحتاجو الى السؤال والكشف عن جنابه وبعد ما جهلهم موسى وشدد عليهم وسفههم

قالَ فرعون مغاضبا مستكبرا مستعليا مهددا مقسما بعزته وجلاله قائلا فو عزتي وعظمتي لَئِنِ اتَّخَذْتَ وأخذت وعبدت يا موسى إِلهَاً غَيْرِي بمقتضى زعمك لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ المعهودين عندك من انهم لا مخلص لهم عن سجنى حتى الموت فيه فانه قد كان يطرح المخالفين في هوة عميقة حتى يموتوا فيها وبعد ما سمع موسى تهديده وعتوه

قالَ له مستفهما على سبيل التعجيز والغلبة أَتفعل أنت ما هددتنى به وَلَوْ جِئْتُكَ ايها الطاغي المتجبر بِشَيْءٍ مُبِينٍ وبمعجزة عظيمة ظاهرة الدلالة على صدقى في دعواي

قالَ فرعون مستحيا من الناس مستبعدا نفسه عن العجز والافحام فَأْتِ بِهِ اى بالذي ادعيت من المعجزة إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في الدعوى

فَأَلْقى موسى أولا عَصاهُ على الفور فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ ظاهر ثعبانيته عظيم بحيث لا يشتبه على احد امره وصولته

وَبعد إلقاء العصا قد نَزَعَ يَدَهُ ثانيا وأخرجها من جيبه ليثبت مدعاه بشاهدين فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ محيرة مفرقة للابصار من غاية شعاعها ولمعانها سيما لِلنَّاظِرِينَ إليها مدهشة لقلوبهم الى حيث قد تاهوا وتحيروا من شعشعتها فلما رآهما فرعون

قالَ بعد ما اوجس في نفسه خيفة لِلْمَلَإِ الذين يجلسون حَوْلَهُ مستغربا من امره مستعجبا من شأنه إِنَّ هذا المدعى لَساحِرٌ عَلِيمٌ ماهر في علم السحر بالغ نهايته

يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ المألوفة ووطنكم الموروث بِسِحْرِهِ هذا وبكماله فيه فَماذا تَأْمُرُونَ في امره ايها الأشراف والأعيان. انظر ايها المتأمل الناظر الى كمال قدرة الله وسطوع حجته البالغة كيف تأثر منها فرعون المتكبر المتجبر الطاغي مع كمال عتوه واستعلائه الى حيث قد اضطر الى المشورة مع الناس في امر موسى ودفعه مع انه كان في فرط عتوه واستعلائه وعزته قد ادعى الألوهية لنفسه وبعد ما سمع الأشراف قوله

قالُوا له مقتضى شأنك وجلالك أن لا تسارع الى قتلهما لئلا تنسب الى العجز والإلزام منهما ومن حجتهما بل أَرْجِهْ واحبس موسى وَأَخاهُ هارون وأخر قتلهما زمانا وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ المحروسة شرطا حاشِرِينَ جامعين حاصرين وأمرهم حتى

يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ مبالغ في السحر عَلِيمٍ فائق في علمه متناه فيه بالغ نهايته فبعث شرطا الى الأقطار بعد ما قد وكل عليهما وكلاء يحبسونهما

<<  <  ج: ص:  >  >>