للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

إذا أحسّ بكلمة لا توافق ما نشأ عليه وألفه- وإن كانت أضوأ من الشمس في ظهور الصحة وبيان الاستقامة- أنكرها في أوّل وهلة، واشمأز منها قبل أن يحس إدراكها بحاسة سمعه من غير فكر في صحة أو فساد، لأنه لم يشعر قلبه إلا صحة مذهبه وفساد ما عداه من المذاهب. فإن قلت:

ما معنى التوقع في قوله وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ؟ قلت: معناه أنهم كذبوا به على البديهة قبل التدبر ومعرفة التأويل «١» ، تقليداً للآباء. وكذبوه بعد التدبر، تمرداً وعناداً، فذمّهم بالتسرع إلى التكذيب قبل العلم به، وجاء بكلمة التوقع ليؤذن أنهم علموا بعد علو شأنه وإعجازه لما كرّر عليهم التحدّى، ورازوا قواهم «٢» في المعارضة واستيقنوا عجزهم عن مثله، فكذبوا به بغياً وحسداً كَذلِكَ أى مثل ذلك التكذيب كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعنى قبل النظر في معجزات الأنبياء وقبل تدبرها من غير إنصاف من أنفسهم، ولكن قلدوا الآباء وعاندوا.

وقيل: هو في الذين كذبوا وهم شاكون. ويجوز أن يكون معنى وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ولم يأتهم بعد تأويل ما فيه من الإخبار بالغيوب أى عاقبته، حتى يتبين لهم أهو كذب أم صدق، يعنى أنه كتاب معجز من جهتين: من جهة إعجاز نظمه، ومن جهة ما فيه من الإخبار بالغيوب، فتسرّعوا إلى التكذيب به قبل أن ينظروا في نظمه وبلوغه حدّ الإعجاز، وقبل أن يخبروا أخباره بالمغيبات وصدقه وكذبه وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ يصدق به في نفسه، ويعلم أنه حق، ولكنه يعاند بالتكذيب. ومنهم من يشكّ فيه لا يصدق به، أو يكون للاستقبال، أى: ومنهم من سيؤمن به ومنهم من سيصرّ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ بالمعاندين، أو المصرين.

[[سورة يونس (١٠) : آية ٤١]]

وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٤١)

وَإِنْ كَذَّبُوكَ وإن تموا على تكذيبك «٣» ويئست من إجابتهم، فتبرأ منهم وخلقهم فقد أعذرت، كقوله تعالى فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ وقيل: هي منسوخة بآية السيف.

[سورة يونس (١٠) : الآيات ٤٢ الى ٤٣]

وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (٤٢) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (٤٣)


(١) . قال محمود: «معناه أنهم كذبوا به على البديهة قبل التدبر ومعرفة التأويل … الخ» قال أحمد: وكان التكذيب قبل الاحاطة بعلمه ربما يوهم عذرا ما للمكذب، فجاءت كلمة لما مشعرة بأنهم قد أحاطوا بعلمه حتى تنحسم أعذارهم ويتحقق شقاؤهم، والله أعلم.
(٢) . قوله «ورازوا قواهم» أى جربوها وخبروها. أفاده الصحاح. (ع)
(٣) . قوله «وإن تموا على تكذيبك» أى مضوا عليه ولم يرجعوا عنه، أفاده الصحاح. (ع)