للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فإن قلت: هلا قيل: يعلم السر لقوله وَأَسَرُّوا النَّجْوَى «١» ؟ قلت: القول عام يشمل السرّ والجهر، فكان في العلم به العلم بالسرّ وزيادة، فكان آكد في بيان الاطلاع على نجواهم من أن يقول: يعلم السرّ، كما أنّ قوله: يعلم السرّ، آكد من أن يقول: يعلم سرهم. ثم بين ذلك بأنه السميع العليم لذاته فكيف تخفى عليه خافية. فإن قلت: فلم ترك هذا الآكد في سورة الفرقان في قوله قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ؟ قلت: ليس بواجب أن يجيء بالآكد في كل موضع، ولكن يجيء بالوكيد تارة وبالآكد أخرى، كما يجيء بالحسن في موضع وبالأحسن في غيره ليفتنّ الكلام افتنانا، وتجمع الغاية وما دونها، على أن أسلوب تلك الآية خلاف أسلوب هذه، من قبل أنه قدم هاهنا أنهم أسروا النجوى، فكأنه أراد أن يقول:

إن ربى يعلم ما أسروه، فوضع القول موضع ذلك للمبالغة، وثم قصد وصف ذاته بأن أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض، فهو كقوله علام الغيوب عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ. وقرئ قالَ رَبِّي حكاية لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم.

[[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٥]]

بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (٥)

أضربوا عن قولهم هو سحر إلى أنه تخاليط أحلام، ثم إلى أنه كلام مفترى من عنده، ثم إلى أنه قول شاعر، وهكذا الباطل لجلج «٢» ، والمبطل متحير رجاع غير ثابت على قول واحد.

ويجوز أن يكون تنزيلا من الله تعالى لأقوالهم في درج الفساد: وأن قولهم الثاني أفسد من الأول، والثالث أفسد من الثاني، وكذلك الرابع من الثالث. صحة التشبيه في قوله كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ


(١) . قال محمود: «إن قلت لم عدل عن قوله يعلم السر مع أن المتقدم وأسروا النجوى … الخ» قال أحمد:
وهذا من إتباع القرآن للرأى، نعوذ بالله من ذلك لا سيما رأى ينفى صفات الكمال عن الله تعالى وما الذي دل عليه السَّمِيعُ الْعَلِيمُ من نفى صفتي السمع والعلم في تفسيرهما بذلك، مع أنه لا يفهم في اللغة سميع إلا بسمع، ولا عليم إلا بعلم، فإنها صفات مشتقات من مصادر لا بد من فهمها وثبوتها أولا، ثم ثبوت ما اشتقت منه. ومن أنكر السمع والعلم فقد سارع إلى إنكار السميع العليم وهو لا يشعر. وليس غرضنا في هذا المصنف سوى الإيقاظ لما الطوى عليه الكشاف من غوائل البدع ليتجنبها الناظر. وأما الأدلة الكلامية فمن فنها تتلقى. وحاله فيما يورده من أمثال هذه النزغات مختلف: فمرة يوردها عند كلام يتخيل في ظاهره إشعارا بغرضه، فوظيفتنا معه حينئذ أن ننازع في الظهور، ثم قد نترقى إلى بيان ظهوره في عكس مراده أو نصوصيته، حتى لا يحتمل ما يدعيه بوجه ما، وقد يلجئنا الانصاف إلى تسليم الظهور له فنذكر وجه التأويل الذي يرشد إليه دليل العقل. ومرة يورد نبذا من هذا الرأى عند كلام لا يحتمله ولا يشعر به بوجه، وغرضه التعف حتى لا يخلى شيئا من كلامه من تعصب وإصرار على باطل، فننبه على ذلك أيضا. وما ذكره عند هذه الآية من قبيل ما يدل النص على عكس مراده فيه، وقد أوضحناه.
(٢) . قوله «الباطل لجلج» في الصحاح: الحق أبلج والباطل لجلج، أى: يردد من غير أن ينفد. (ع)