للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وخبرا. والفتنة: الامتحان بشدائد التكليف: من مفارقة الأوطان، ومجاهدة الأعداء، وسائر الطاعات الشاقة، وهجر الشهوات والملاذ، وبالفقر والقحط، وأنواع المصائب في الأنفس والأموال. وبمصابرة الكفار على أذاهم وكيدهم وضرارهم. والمعنى: أحسب الذين أجروا كلمة الشهادة على ألسنتهم وأظهروا القول بالإيمان: أنهم يتركون بذلك غير ممتحنين، بل يمحنهم الله بضروب المحن، حتى يبلو صبرهم، وثبات أقدامهم، وصحة عقائدهم، ونصوع نياتهم، ليتميز المخلص من غير المخلص، والراسخ في الدين من المضطرب، والمتمكن من العابد على حرف، كما قال لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ وروى أنها نزلت في ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جزعوا من أذى المشركين. وقيل في عمار بن ياسر: وكان يعذب في الله. وقيل: في ناس أسلموا بمكة، فكتب إليهم المهاجرون: لا يقبل منكم إسلامكم حتى تهاجروا، فخرجوا فتبعهم المشركون فردّوهم، فلما نزلت كتبوا بها إليهم، فخرجوا فاتبعهم المشركون فقاتلوهم، فمنهم من قتل ومنهم من نجا. وقيل: في مهجع بن عبد الله مولى عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وهو أوّل قتيل من المسلمين يوم بدر، رماه عامر بن الحضرمي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سيد الشهداء مهجع، وهو أول من يدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة «١» ، فجزع عليه أبواه وامرأته وَلَقَدْ فَتَنَّا موصول بأحسب أو بلا يفتنون، كقولك: ألا يمتحن فلان وقد امتحن من هو خير منه، يعنى: أن أتباع الأنبياء عليهم السلام قبلهم، قد أصابهم من الفتن والمحن نحو ما أصابهم. أو ما هو أشدّ منه فصبروا، كما قال: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا … الآية وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «قد كان من قبلكم يؤخذ فيوضع المنشار على رأسه فيفرق فرقتين، ما يصرفه ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب، ما يصرفه ذلك عن دينه» «٢» فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ بالامتحان الَّذِينَ صَدَقُوا في الإيمان وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ فيه. فإن قلت: كيف وهو عالم بذلك فيما لم يزل؟ قلت: لم يزل يعلمه معدوما، ولا يعلمه موجودا إلا إذا وجد «٣» ، والمعنى:


(١) . ذكره الثعلبي عن مقاتل قال «نزلت هاتان الآيتان في مهجع بن عبد الله مولى عمر، كان أول من قتل من المسلمين يوم بدر، رماه عامر بن الحضرمي بسهم فقتله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سيد الشهداء مهجع وهو أول من يدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة» وسنده إلى مقاتل في أول كتابه، وفي الدلائل لابن أبى شيبة من طريق القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود قال «أول من استشهد يوم بدر مهجع مولى عمر» .
(٢) . أخرجه البخاري من حديث خباب بن الأرت به، وأتم منه.
(٣) . قال محمود: «إن قلت هو لم يزل يعلم الصادقين والكاذبين قبل الامتحان، فما وجه هذا الكلام؟
قلت: لم يزل يعلمه معدوما ولا يعلمه موجودا إلا إذا وجد» قال أحمد: فيما ذكر إيهام بمذهب فاسد، وهو اعتقاد أن العلم بالكائن غير العلم بأن سيكون، والحق أن علم الله تعالى واحد يتعلق بالموجود زمان وجوده وقبله وبعده على ما هو عليه، وفائدة ذكر العلم هاهنا وإن كان سابقا على وجود المعلوم: التنبيه بالسبب على المسبب وهو الجزاء، كأنه قال تعالى: لنعلمنهم فلنجازينهم بحسب علمه فيهم، والله أعلم.