للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قَدْ أتْرُكُ الْقِرْنَ مُصْفَرًّا أنَامِلُهُ «١»

تَقَلُّبَ وَجْهِكَ تردّد وجهك وتصرف نظرك في جهة السماء. وكان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يتوقع من ربه أن يحوّله إلى الكعبة، لأنها قبلة أبيه إبراهيم، وأدعى للعرب إلى الإيمان لأنها مفخرتهم ومزارهم ومطافهم، ولمخالفة اليهود فكان يراعى نزول جبريل عليه السلام والوحى بالتحويل فَلَنُوَلِّيَنَّكَ فلنعطينك ولنمكننك من استقبالها، من قولك: وليته كذا. إذا جعلته والياً له، أو فلنجعلنك تلى سمتها دون سمت بيت المقدس تَرْضاها تحبها وتميل إليها لأغراضك الصحيحة التي أضمرتها ووافقت مشيئة اللَّه وحكمته شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ نحوه. قال:

وَأظْعَنُ بِالْقَوْمِ شَطْرَ الْمُلُوكِ

وقرأ أبىّ: تلقاء المسجد الحرام. وعن البراء بن عازب قدم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم المدينة فصلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهراً ثم وجه إلى الكعبة «٢» وقيل: كان ذلك في رجب بعد زوال الشمس قبل قتال بدر بشهرين، ورسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في مسجد بنى سلمة وقد صلى بأصحابه ركعتين من صلاة الظهر فتحوّل في الصلاة واستقبل الميزاب، وحوّل الرجال مكان النساء والنساء مكان الرجال، فسمى المسجد مسجد القبلتين «٣» . و (شَطْرَ الْمَسْجِدِ) نصب على الظرف، أى اجعل تولية الوجه تلقاء المسجد أى في جهته وسمته «٤» لأن


(١) .
قد أترك القرن مصفرا أنامله … كأن أثوابه مجت بفرصاد
أو جرته ونواصي الخيل معلمة … سمر أعاملها من خلفها نادى
للهزلى. وقيل لعبيد بن الأبرص. وقد للتكثير والترك بمعنى التصيير. واصفرار الأنامل: كناية عن الموت.
والفرصاد: ماء التوت، وهو أحمر. والايجار: السقي كرها. ونواصي الخيل: شعور رءوسها. والمعلمة: المشهورة بعلامات. والسمراء: القناة. وعاملها في الأصل: هو ما يلي السنان منها، فاستعاره لما يأتى مبالغة. ويقال:
نأدته الداهية نأداً، إذا فدحته وبلغت منه، وخفف الناد هنا بابدال الهمزة ألفا، أى كثيراً ما أترك قرينى في الشجاعة قتيلا ملطخة أثوابه بدمه أسقيته رمحا عاملها من خلفها شدة ضربي. ويروى: ثادى، بالمثلثة. والثاد- بالهمز وقد يخفف-: الندى والمطر. وأما الثادى- اسم فاعل- فهو السحاب الكثير المطر، أى سقيته، والحال أن نواصي الخيل مسومة رمحاً عاملها من خلفها شدة ضربي الشبيهة بالندى أو بالسحاب، وذلك مناسب للإيجاز.
ويروى: سمر، كحمر، فهو خبر ثان. وأعاملها: مضارع. وناد: مفعول أو جرته وفيه نوع التهكم. وروى
لزهير تكميل البيت الأول بقوله … يميد في الرمح ميد المائح الأسن
أى المنتن. يقال: أسن الماء فهو آسن، بالمد وتركه، إذا أنتن.
(٢) . متفق عليه من طريق أبى إسحاق عنه. وفيه «وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت- الحديث» وفي رواية لابن حبان «وكان يحب أن يحول نحو البيت» .
(٣) . أخرجه الواقدي في المغازي ونقله عن ابن سعد ثم أبو الفتح اليعمري
(٤) . قال محمود رحمه اللَّه: «الشطر النحو والسمت … الخ» . قال أحمد رحمه اللَّه: وقد نقل أصحابنا المالكية خلافا عن المذهب في الواجب فقيل: الجهة. وقيل: العين، هذا مع البعد. وأما حيث تشاهد الكعبة في المسجد الحرام فمن خرج عن السمت ثم لم تصح صلاته قولا واحداً، ثم لهم على كل واحد من القولين إشكال. أما على قول العين فيلزم أن لا تصح صلاة الصف المستقيم المستطيل زيادة على مسامتة الكعبة شرفها اللَّه تعالى، لأنا نعلم بالضرورة- وإن لم نشاهد- أن بعضهم يصلى إلى غير عينها، إذ لا يفي سمتها بذلك على هذا التقدير. لكن الجواز في مثل هذا مع البعد متفق عليه. وأما على قول الجهة فيلزم تجويز صلاة الكائن في الشمال مثلا إلى الجهات الثلاث، لأنها كلها جهات الكعبة، والسمت غير مراعي على هذا المذهب، وإنما جاء هذا الخبط من عدم التمييز بين مراعاة الجهة والسمت، ولقد ميزهما أبو حامد بمثال هندسي في كتاب الأحياء فلا تطول بذكره. والتحقيق عند الفتوى: أن المعتبر مع البعد الجهة لا السمت.