للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أريد آباؤهم الأدنون دون الأباعد الْقَوْلُ قوله تعالى لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ يعنى تعلق بهم هذا القول وثبت عليهم ووجب، لأنهم ممن علم أنهم يموتون على الكفر.

[سورة يس (٣٦) : الآيات ٨ الى ٩]

إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (٨) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (٩)

ثم مثل تصميمهم على الكفر، وأنه لا سبيل إلى ارعوائهم بأن جعلهم كالمغلولين المقمخين:

في أنهم لا يلتفتون إلى الحق ولا يعطفون أعناقهم نحوه، ولا يطأطئون رءوسهم له، وكالحاصلين بين سدين لا يبصرون ما قدّامهم ولا ما خلفهم: في أن لا تأمل لهم ولا تبصر، وأنهم متعامون عن النظر في آيات الله. فإن قلت: ما معنى قوله فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ؟ قلت: معناه: فالأغلال واصلة إلى الأذقان ملزوزة إليها، وذلك أن طوق الغل الذي في عنق المغلول، يكون ملتقى طرفيه تحت الذقن حلقة فيها رأس العمود، نادرا «١» من الحلقة إلى الذقن، فلا تخليه يطأطئ رأسه ويوطئ قذاله «٢» ، فلا يزال مقمحا. والمقمح: الذي يرفع رأسه ويغض بصره. يقال:

قمح البعير فهو قامح: إذا روى فرفع رأسه. ومنه شهرا قماح «٣» ، لأن الإبل ترفع رءوسها عن الماء لبرده فيهما، وهما الكانونان. ومنه: اقتحمت السويق. فإن قلت: فما قولك فيمن جعل الضمير للأيدى وزعم أن الغل لما كان جامعا لليد والعنق- وبذلك يسمى جامعة- كان ذكر الأعناق دالا على ذكر الأيدى «٤» ؟ قلت: الوجه ما ذكرت لك، والدليل عليه قوله


(١) . قوله «رأس العمود نادرا» أى شاذا، كما يفيده الصحاح. (ع)
(٢) . قوله «ويوطئ قذاله» في الصحاح «القذال» : جماع مؤخر الرأس، فتدبر. (ع)
(٣) . قوله «ومنه شهرا قماح» بوزن كتاب وغراب، كما نقل عن القاموس. وفي الصحاح: سميا بذلك، لأن الإبل إذا وردت فيهما آذاها برد الماء فقامحت. (ع)
(٤) . قال محمود: فان قلت: فما قولك فيمن جعل الضمير للأيدى وزعم أن الغل لما كان جامعا لليد والعنق وبذلك يسمى جامعة: كان ذكر الأعناق دالا على ذكر الأيدى. وأجاب بأن الوجه هو الأول، واستدل على هذا التفسير الثاني بقوله فَهُمْ مُقْمَحُونَ لأنه جعل الاقماح نتيجة قوله فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ ولو كان الضمير للأيدى لم يكن معنى التسبب في الاقماح ظاهرا، وترك الحق الأبلج للباطل اللجلج. انتهى كلامه» قال أحمد: ويحتمل أن تكون الفاء للتعقيب كالفاء الأولى في قوله فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ أو للتسبب، ولا شك أن ضغط اليد مع العنق في الغل يوجب الاقماح، فان اليد والعياذ بالله تعالى تبقى ممسكة بالغل تحت الذقن دافعة بها ومانعة من وطأتها، ويكون التشبيه أتم على هذا التفسير، فان اليد متى كانت مرسلة مخلاة كان للمغلول بعض الفرج بإطلاقها، ولعله يتحيل بها على فكاك الغل، ولا كذلك إذا كانت مغلولة، فيضاف إلى ما ذكرناه من التشبيهات المفرقة أن يكون انسداد باب الحيل عليهم في الهداية والاتخلاع من ربقة الكفر المقدر عليهم مشبها بغل الأيدى، فان اليد آلة الحيلة إلى الخلاص. [.....]