للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكلام مع علم الله تعالى أنّ رسله لا يشركون ولا تحبط أعمالهم؟ قلت: هو على سبيل الفرض، والمحالات يصح فرضها لأغراض، فكيف بما ليس بمحال. ألا ترى إلى قوله وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً يعنى على سبيل الإلجاء، ولن يكون ذلك لامتناع الداعي إليه ووجود الصارف عنه. فإن قلت: ما معنى قوله وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ؟ قلت: يحتمل ولتكونن من الخاسرين بسبب حبوط العمل. ويحتمل: ولتكونن في الآخرة من جملة الخاسرين الذين خسروا أنفسهم إن مت على الردة. ويجوز أن يكون غضب الله على الرسول أشدّ، فلا يمهله بعد الردة: ألا ترى إلى قوله تعالى إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ، بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ رد لما أمروه به من استلام بعض آلهتهم، كأنه قال: لا تعبد ما أمروك بعبادته، بل إن كنت عاقلا فاعبد الله، فحذف الشرط وجعل تقديم المفعول عوضا منه «١» وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ على ما أنعم به عليك، من أن جعلك سيد ولد آدم. وجوّز الفراء نصبه بفعل مضمر هذا معطوف عليه، تقديره: بل الله أعبد فاعبد.

[[سورة الزمر (٣٩) : آية ٦٧]]

وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٧)

لما كان العظيم من الأشياء إذا عرفه الإنسان حق معرفته وقدره في نفسه حق تقديره عظمه حق تعظيمه قيل وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وقرئ بالتشديد على معنى: وما عظموه كنه تعظيمه، ثم نبههم على عظمته وجلالة شأنه على طريقة التخييل فقال وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ والغرض من هذا الكلام إذا أخذته كما هو بجملته ومجموعه تصوير عظمته والتوقيف على كنه جلاله لا غير، من غير ذهاب بالقبضة ولا باليمين «٢»


(١) . قال محمود: «أصل الكلام: إن كنت عابدا فاعبد الله، فحذف الشرط وجعل تقديم المفعول عوضا منه.
اه كلامه» قال أحمد: مقتضى كلام سيبويه في أمثال هذه الآية: أن الأصل فيه فاعبد الله، ثم حذفوا الفعل الأول اختصارا، فلما وقعت الفاء أولا استنكروا الابتداء بها، ومن شأنها التوسط بين المعطوف والمعطوف عليه، فقدموا المفعول وصارت متوسطة لفظا ودالة على أن ثم محذوفا اقتضى وجودها، ولتعطف عليه ما بعدها وينضاف إلى هذه الغاية في التقديم فائدة الحصر، كما تقدم من إشعار التقديم بالاختصاص.
(٢) . قال محمود: «الغرض من هذا الكلام تصوير عظمته تعالى والتوقيف على كنه جلاله من غير ذهاب بالقبضة ولا باليمين إلى جهة حقيقة أو جهة مجاز، وكذلك حكم ما يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن حبرا جاء إليه فقال: يا أبا القاسم، إن الله يمسك السماوات يوم القيامة على أصبع والأرضين على أصبع والجبال على أصبع والشجر على أصبع وسائر الخلق على أصبع، ثم يهزهن فيقول: أنا الملك، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعجب مما قال الحبر ثم قرأ هذه الآية تصديقا له، فإنما ضحك أفصح العرب لأنه لم يفهم منه إلا ما فهمه علماء البيان من غير تصوير إمساك ولا هز ولا شيء من ذلك، ولكن فهمه وقع أول شيء وآخره على الزبدة والخلاصة التي هي الدلالة على القدرة الباهرة التي لا يوصل السامع إلى الوقوف عليها إلا إجراء العبارة على مثل هذه الطريقة من التخييل، ثم قال: وأكثر كلام الأنبياء والكتب السماوية وعليتها تخييل قد زلت فيه الأقدام قديما. اه كلامه» قال أحمد: إنما عنى بما أجراه هاهنا من لفظ التخييل التمثيل، وإنما العبارة موهمة منكرة في هذا المقام لا تليق به بوجه من الوجوه، والله أعلم.