للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

القبلة، فقيل: ليس البرّ العظيم الذي يجب أن تذهلوا بشأنه عن سائر صنوف البرّ أمر القبلة، ولكن البرّ الذي يجب الاهتمام به وصرف الهمة برّ من آمن وقام بهذه الأعمال. وقرئ: وليس البرّ- بالنصب على أنه خبر مقدم- وقرأ عبد اللَّه: بأن تولوا، على إدخال الباء على الخبر للتأكيد كقولك: ليس المنطلق بزيد وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ على تأويل حذف المضاف، أى برّ من آمن، أو يتأول البرّ بمعنى ذى البرّ، أو كما قالت:

فَإنَّمَا هِىَ إقْبَالٌ وَإدْبَارُ «١»

وعن المبرّد: لو كنت ممن يقرأ القرآن لقرأت: ولكنّ البرّ، بفتح الباء. وقرئ: ولكن البارّ. وقرأ ابن عامر ونافع: ولكنّ البر بالتخفيف وَالْكِتابِ جنس كتب اللَّه، أو القرآن عَلى حُبِّهِ مع حب المال والشح به، كما قال ابن مسعود «أن تؤتيه وأنت صحيح شحيح، تأمل العيش وتخشى الفقر، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا «٢» » . وقيل:


(١) .
فما عجول على بو تطيف به … لها حنينان إصغار وإكبار
لا تسأم الدهر منه كلما ذكرت … فإنما هي إقبال وإدبار
يوما بأوجد منى حين فارقنى … صخر وللدهر إحلاء وإمرار
للخنساء ترئى أخاها صخراً. والعجول: الناقة التي أسقطت حملها قبل تمام شهرين، والتي فقدت ولدها بنحر أو موت والبو: جلد محشو تدر الناقة لأجله. وقيل: ولد الناقة. وطاف به يطوف طوفا وطوافا وطوفانا، إذا دار حوله وطاف عليه يطيف طيفاً، إذا أقبل عليه. وقد يستعمل كل موضع الآخر، أى تحرم حوله. ويروى: تحن له.
وإصغار وإكبار: بدل من حنينان. ويروى: إعلان وإسرار. والمعنى واحد، غير أن فيه تقديماً وتأخيراً.
أو الاصغار الحنين على الولد الصغير، والإكبار على الكبير، كذا قيل، لكن خير ما فسرته بالوارد. والدهر:
نصب بتسأم أى: لا تمل طول الدهر مما ذكر من الحنين ورجوعه للبو، تأباه جزالة المعنى. ويمكن عوده على الطيف المعلوم من تطيف. ويروى بدل هذا الشطر
ترتع ما رتعت حتى إذا ادكرت
وأصله اذتكرت أى تذكرت. ويروى
ترتع ما غفلت حتى إذا ذكرت
أى ترعى مدة غفلتها عنه، فإذا تذكرته فإنما هي ذات إقبال وذات إدبار، أو مقبلة ومدبرة، أو هي نفس الإقبال والأدبار مبالغة. أى تلتفت تارة أمامها وتارة خلفها وتتلهى عن الرعي. وقيل المراد إقبال النهار وإدبار الليل وعكسه. ويمكن أن وجهه استقلال المدة، أى فإنما مدة الدهر إقبال وإدبار دائرين بين الليل والنهار، بالضمير عائد على معلوم من السياق، لكن لا يظهر على الرواية الثانية. ويوما: نصب بأوجد وجاز تقدمه على أفعل التفضيل، لأنه ظرف، وكذاك تنبيهاً على أن المراد باليوم مطلق الزمن غالباً. وبأوجد:
خبر عجول. ويروى «بأوجع» أى ليست أشد حزنا منى حين فارقني أخي، وحين نصب بأوجد أيضاً. ووجهه أنه في معنى عاملين، أى ليس وجدها يوما أشد من وجدي حين الفراق، فالأول للأول، والثاني للثاني، ثم تسلت بقولها: وللدهر إحلاء وإمرار. ويقال: أحلى الشيء وأمر، صار حلواً وصار مراً. ويجوز أنهما متعديان.
والمراد: أن الدهر ينعم العيش تارة ويبئسه أخرى. فالاحلاء والإمرار استعارتان لذلك.
(٢) . موقوف، كذا أخرجه عبد الرزاق عن الثوري عن زبيد عن مرة عنه. قال في قوله تعالى: (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى) قال «أن يؤتيه» فذكره إلى قوله «ويخشى الفقر» ولم يذكر ما بعده. ومن طريقه أخرجه الطبراني والحاكم وذكره أبو نعيم في الحلية. في ترجمة مسعر فأخرجه من طريقه عن زبيد به. وقال هكذا رواه مسعر والناس. عن زبيد موقوفا رواه مخلدين يزيد عن الثوري مرفوعا. وتفرد برفعه ثم ساقه. وأخرجه البيهقي من رواية شعبة عن زبيد موقوفا ومن طريق سلام بن سليم المدائني عن محمد بن طلحة عن زبيد مرفوعا: وسلام ضعيف رواه الطبري من ثلاثة طرق عن زبيد موقوفا. ولم يذكر أحد منهم ولا تمهل وإنما هو في حديث أبى هريرة. اتفق الشيخان عليه بلفظ «قال رجل للنبي صلى اللَّه عليه وسلم يا رسول اللَّه، أى الصدقة أفضل؟ قال أن تصدق وأنت صحيح شحيح تأمل العنى وتخشى الفقر ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان» .