للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٩ الى ١١]

وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١١)

فإن قلت: قوله لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ وما سرد من الأوصاف عقيبه إن كان من قولهم «١» ، فما تصنع بقوله فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ وإن كان من قول الله، فما وجهه؟ قلت: هو من قول الله لا من قولهم. ومعنى قوله لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ الذي من صفته كيت وكيت، لينسبنّ خلقها إلى الذي هذه أوصافه وليسندنه إليه. بِقَدَرٍ بمقدار يسلم معه البلاد والعباد، ولم يكن طوفانا.

[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ١٢ الى ١٤]

وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (١٢) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (١٣) وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (١٤)

والْأَزْواجَ الأصناف ما تَرْكَبُونَ أى تركبونه. فإن قلت: يقال: ركبوا الأنعام وركبوا في الفلك «٢» . وقد ذكر الجنسين فكيف قال ما تركبونه؟ قلت: غلب المتعدّى بغير


(١) . قال محمود: «فان قلت: قوله لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ وما سرد من الأوصاف عقبه إن كان من قولهم … الخ» قال أحمد: الذي يظهر أن الكلام مجزأ، فبعضه من قولهم، وبعضه من قول الله تعالى، فالذي هو من قولهم خَلَقَهُنَّ، وما بعده من قول الله عز وجل، وأصل الكلام أنهم قالوا: خلقهن الله ويدل عليه قوله في الآية الأخرى وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ثم لما قالوا: خلقهن الله وصف الله تعالى ذاته بهذه الصفات، ولما سبق الكلام كله سياقه وأخذه، حذف الموصوف من كلامهم، وأقيمت الصفات المذكورة في كلام الله تعالى مقامه كأنه كلام واحد. ونظير هذا أن تقول للرجل: من أكرمك من القوم؟ فيقول أكرمنى زيد، فتقول أنت واصفا للمذكور: الكريم الجواد الذي من صفته كذا وكذا، ثم لما وقع الانتقال من كلامهم إلى كلام الله عز وجل، جرى كلامه عز وجل على ما عرف من الافتنان في البلاغة، فجاء أوله على لفظ الغيبة وآخره على الانتقال منها، إلى التكلم في قوله فَأَنْشَرْنا كل ذلك افتنان في أفنان البلاغة. ومن هذا النمط قوله تعالى حكاية عن موسى قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى فجاء أول الكلام حكاية عن موسى، إلى قوله وَلا يَنْسى ثم وقع الانتقال من كلام موسى إلى كلام الله تعالى، فوصف ذاته أوصافا متصلة بكلام موسى، حتى كأنه كلام واحد. وابتدأ في ذكر صفاته على لفظ الغيبة إلى قوله فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى فانظر إلى تحقيق التطبيق بين الآيتين تر العجب، والله الموفق.
(٢) . قال محمود: «يقال ركبت الدابة وركبت في الفلك … الخ» قال أحمد: لم يحرر العبارة في هذا الموضع فان قوله «غلب المتعدي بغير واسطة على المتعدي بنفسه» يوهم أن بين الفعلين تباينا وليس كذلك، فان المتعدي إلى الأنعام هو عين الفعل المتعدي إلى السفن غاية ما، ثم إن العرب خصته باعتبار بعض مفاعيله بالواسطة، وباعتبار بعضها بالتعدي بنفسه، والاختلاف بالتعدي والقصور. أو باختلاف آلات التعدي.
وباختلاف أعداد المفاعيل لا يوجب الاختلاف في المعنى، فمن ثم يعدون الفعل الواحد مرة بنفسه ومرة بواسطة، مثل: سكرت وأخواته، ويعدون الأفعال المترادفة بآلات مختلفة، مثل دعوت وصليت، فإنك تقول: صلى النبي على آل أبى أوفى، ولو قلت: دعا على آل أبى أوفى: لأفهم عكس المقصود، ولكن دعا لآل أبى أوفى، ويعدون بعضها إلى مفعولين، ومرادفه إلى مفعول واحد، كعلم وعرف، فلا يترتب على الاختلاف بالتعدي.
والقصور: الاختلاف في المعنى، فالذي يحرر من هذا: أن ركب باعتبار القبيلين معناه واحد، وإن خص أحدهما باقتران الواسطة والآخر بسقوطها، فالصواب أحد الأمرين: إما تقدير المتعلقين على ما هما عليه لو انفردا، فيكون التقدير ما تركبونه وتركبون فيه، والأقرب تعليله باعتبار التعدي بنفسه، ويكون هذا من تغليب أحد اعتباري الفعل على الآخر، وهو أسهل من التغليب في قوله تعالى فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ على أحد التأويلين فيه: فان التباين ثم ثابت بين الفعلين من حيث المعنى، أعنى: أجمع على الأمر وجمع الشركاء، ولكن لما تقاربا: غلب أحدهما على الآخر، ثم جعل المغلب هو المتعدي بنفسه، والله أعلم.