للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

حجة علىّ، ثم قال: لا تطمعوا أن أبدل قولي ووعيدى فأعفيكم عما أوعدتكم به وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ فأعذب من ليس بمستوجب للعذاب. والباء في بِالْوَعِيدِ مزيدة مثلها في وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ أو معدية، على أن «قدّم» مطاوع بمعنى «تقدّم» ويجوز أن يقع الفعل على جملة قوله ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ويكون بِالْوَعِيدِ حالا، أى: قدّمت إليكم هذا ملتبسا بالوعيد مقترنا به. أو قدّمته إليكم موعدا لكم به. فإن قلت: إنّ قوله وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ واقع موقع الحال من لا تَخْتَصِمُوا والتقديم بالوعيد في الدنيا والخصومة في الآخرة واجتماعها في زمان واحد واجب. قلت: معناه ولا تختصموا وقد صح عندكم أنى قدمت إليكم بالوعيد، وصحة ذلك عندهم في الاخرة. فإن قلت: كيف قال بِظَلَّامٍ على لفظ المبالغة «١» ؟

قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن يكون من قولك: هو ظالم لعبده، وظلام لعبيده. والثاني:

أن يراد لو عذبت من لا يستحق العذاب لكنت ظلاما مفرط الظلم، فنفى ذلك.

[[سورة ق (٥٠) : آية ٣٠]]

يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (٣٠)

قرئ: نقول، بالنون والياء. وعن سعيد بن جبير: يوم يقول الله لجهنم. وعن ابن مسعود والحسن: يقال. وانتصاب اليوم بظلام أو بمضمر، نحو: أذكر وأنذر. ويجوز أن ينتصب بنفخ، كأنه قيل. ونفخ في الصور يوم نقول لجهنم. وعلى هذا يشار بذلك إلى يوم نقول، ولا يقدّر حذف المضاف. وسؤال جهنم وجوابها من باب التخييل «٢» الذي يقصد به تصوير


(١) . قال محمود: «إن قلت كيف جاء على لفظ المبالغة … الخ» قال أحمد: وذكر فيه وجهان آخران، أحدهما أن فعالا قد ورد بمعنى فاعل، فهذا منه. الثاني: أن المنسوب في المعتاد إلى الملوك من الظلم تحت ظلمهم: إن عظيما فعظيم، وإن قليلا فقليل، فلما كان ملك الله تعالى على كل شيء ملكه قدس ذاته عما يتوهم مخذول والعياذ بالله أنه منسوب إليه من ظلم تحت شمول كل موجود، ولقد بدل القدرية فتوهموا أن الله تعالى لم يأمر إلا بما أراده وبما هو من خلق العبد، بناء على أنه لو كلف على خلاف ما أراد وبما ليس من خلق العبد لكان تكليفا بما لا يطاق، واعتقدوا أن ذلك ظلم في الشاهد، فلو ثبت في الغائب لكان كما هو في الشاهد ظلما، والله تعالى مبرأ من الظلم. ألا ترى هذا المعتقد كيف لزمهم عليه أن يكون الله تعالى ظلاما لعبيده، تعالى الله عن ذلك، لأن الحق الذي قامت بصحته البراهين: هو عين ما اعتقدوه ظلما فنفوه، فلمثلهم وردت هذه الآية وأشباهها، لتبين الناس ما نزل إليهم، ولئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، والله الموفق للصواب.
(٢) . قال محمود: «سؤال جهنم وجوابها من باب التخييل الذي يقصد به تصوير المعنى … الخ» قال أحمد: قد تقدم إنكارى عليه إطلاق التخييل في غير ما موضع، والنكير هاهنا أشد عليه، فان إطلاق التخييل قد مضى له في مثل قوله وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وفي مثل قوله بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ وإنما أراد به حمل الأيدى على نوع من المجاز، فمعنى كلامه صحيح، لأنا نعتقد فيهما المجاز، وندين الله بتقديسه عن المفهوم الحقيقي، فلا بأس عليه في معنى إطلاقه، غير أنا مخاطبون باجتناب الألفاظ الموهمة في حق جلال الله تعالى وإن كانت معانيها صحيحة، وأى إيهام أشد من إيهام لفظ التخييل. ألا ترى كيف استعمله الله فيما أخبر أنه سحر وباطل في قوله يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى فلا يشك في وجوب اجتنابه، ثم يعود بنا الكلام إلى إطلاقه هاهنا فنقول: هو منكر لفظا ومعنى.
أما اللفظ فقد تقدم، وأما المعنى فلأنا نعتقد أن سؤال جهنم وجوابها حقيقة، وأن الله تعالى يخلق فيها الإدراك بذلك بشرطه، وكيف نفرض وقد وردت الأخبار وتظاهرت على ذلك: منها هذا: ومنها: لجاج الجنة والنار.
ومنها: اشتكاؤها إلى ربها فأذن لها في نفسين. وهذه وإن لم تكن نصوصا فظواهر يجب حملها على حقائقها، لأنا متعبدون باعتقاد الظاهر ما لم يمنع مانع، ولا مانع هاهنا «فان القدرة صالحة. والعقل يجوز، والظواهر قاضية بوقوع ما صوره العقل، وقد وقع مثل هذا قطعا في الدنيا، كتسليم الشجر وتسبيح الحصا في كف النبي صلى الله عليه وسلم وفي يد أصحابه، ولو فتح باب المجاز والعدول عن الظواهر في تفاصيل المقالة لا تسع الخرق وضل كثير من الخلق عن الحق، وليس هذا كالظواهر الواردة في الإلهيات مما لم يجوز العقل اعتقاد ظاهرها، فان العدول فيها عن ظاهر الكلام بضرورة الانقياد إلى أدلة العقل المرشدة إلى المعتقد الحق، فاشدد يدك بما فصل في هذا الفصل، مما أرشدتك به إلى منهج القرب والوصل، والله الموفق.