للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أحدكم أو بعضكم، يريد به الذي تعورف واشتهر بنحوه من الأفعال، فيكون أفخم من التصريح به وأنوه بصاحبه. وسئل الحطيئة عن أشعر الناس؟ فذكر زهيراً والنابغة ثم قال: ولو شئت لذكرت الثالث، أراد نفسه، ولو قال: ولو شئت لذكرت نفسي، لم يفخم أمره. ويجوز أن يريد: إبراهيم ومحمداً وغيرهما من أولى العزم من الرسل. وعن ابن عباس رضى اللَّه عنه: كنا في المسجد نتذاكر فضل الأنبياء، فذكرنا نوحا بطول عبادته، وإبراهيم بخلته، وموسى بتكليم اللَّه إياه، وعيسى برفعه إلى السماء، وقلنا: رسول اللَّه أفضل منهم، بعث إلى الناس كافة وغفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر وهو خاتم الأنبياء. فدخل عليه السلام فقال: فيم أنتم؟ فذكرنا له. فقال: لا ينبغي لأحد أن يكون خيراً من يحيى بن زكريا، فذكر أنه لم يعمل سيئة قط ولم يهمَّ بها «١» . فإن قلت: فلمَ خصّ موسى وعيسى من بين الأنبياء بالذكر؟ قلت: لما أوتيا من الآيات العظيمة والمعجزات الباهرة. ولقد بين اللَّه وجه التفضيل حيث جعل التكليم من الفضل وهو آية من الآيات، فلما كان هذان النبيان قد أوتيا ما أوتيا من عظام الآيات خصا بالذكر في باب التفضيل. وهذا دليل بين أنّ من زيد تفضيلا بالآيات منهم فقد فضل على غيره. ولما كان نبينا صلى اللَّه عليه وسلم هو الذي أوتى منها ما لم يؤت أحد في كثرتها وعظمها. كان هو المشهود له بإحراز قصبات الفضل غير مدافع، اللهمّ ارزقنا شفاعته يوم الدين وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مشيئة إلجاء وقسر «٢» مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ من بعد الرسل، لاختلافهم في الدين، وتشعب مذاهبهم، وتكفير بعضهم بعضا وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ لالتزامه دين الأنبياء وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ لإعراضه عنه وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا كرّره للتأكيد «٣»


(١) . أخرجه إسحاق بن راهويه: أخبرنا أبو عاصم العبادي أخبرنا على بن زيد بن جدعان عن يوسف بن مهران عنه به. ورواه البزار والطبراني وابن مردويه من حديث ابن عاصم العبادي به. وهو ضعيف وشيخه مجهول.
(٢) . قوله «مشيئة إلجاء وقسر» يعنى أنه أراد عدم الاقتتال، لكن لا إرادة قسر، ولذلك تخلف المراد عنها، وهذا مذهب المعتزلة. وأما عند أهل السنة فليس هناك إرادة يتخلف عنها المراد، بل كل ما شاء اللَّه كان، وما لم يشأ لم يكن، كما بين في محله. (ع)
(٣) . قال محمود رحمه اللَّه: «كرر ولو شاء اللَّه للتأكيد» قال أحمد رحمه اللَّه: ووراء التأكيد سر أخص منه، وهو أن العرب متى بنت أول كلامها على مقصد ثم اعترضها مقصد آخر وأرادت الرجوع إلى الأول، قصدت ذكره إما بتلك العبارة أو بقريب منها. وذلك عندهم مهيع من الفصاحة مسلوك، وطريق معتد. وكان جدي لأمى أبو العباس أحمد بن فارس الفقيه الوزير يعد في كتاب اللَّه تعالى مواضع في هذا المعنى: منها قوله تعالى: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً) ومنها قوله تعالى: (وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ) إلى قوله: (لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ) وهذه الآية من هذا النمط، لما صدر الكلام بأن اقتتالهم كان على وفق المشيئة. ثم طال الكلام، أو أريد بيان أن مشيئة اللَّه تعالى كما نفذت في هذا الأمر الخاص وهو اقتتال هؤلاء فهي ناقذة في كل فعل واقع، وهو المعنى المعبر عنه في قوله: (وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) طرأ ذكر تعلق المشيئة بالاقتتال لتلوه عموم تعلق المشيئة لتناسب الكلام وتعرف كل بشكله. فهذا سر ينشرح لبيانه الصدر ويرتاح السر، واللَّه الموفق. وأى قدم يثبت للاعتزال قبالة هذا؟ لأنه الدائرة القاطعة لدابره، الكافلة بالرد على منتحله وناصره ولذلك جوزها الزمخشري لاغتناصها على تأويله، واعتصامها بالنصوصية من حيله ونحيله.