للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

بمعنى الموت على الكفر، فهلا جعل الموت على الكفر مسببا عن ارتدادهم وازديادهم الكفر لما في ذلك من قساوة القلوب وركوب الرين وجرّه إلى الموت على الكفر؟ قلت: لأنه كم من مرتد مزداد للكفر يرجع إلى الإسلام ولا يموت على الكفر. فإن قلت: فأى فائدة في هذه الكناية، أعنى أن كنى عن الموت على الكفر بامتناع قبول التوبة؟ قلت: الفائدة فيها جليلة، وهي التغليظ في شأن أولئك الفريق من الكفار، وإبراز حالهم في صورة حالة الآيسين من الرحمة التي هي أغلظ الأحوال وأشدّها: ألا ترى أنّ الموت على الكفر إنما يخاف من أجل اليأس من الرحمة ذَهَباً نصب على التمييز. وقرأ الأعمش: ذهب، بالرفع ردا على ملء، كما يقال: عندي عشرون نفسا رجال. فإن قلت: كيف موقع قوله وَلَوِ افْتَدى بِهِ «١» ؟ قلت: هو كلام محمول على المعنى،


(١) . قال محمود رحمه اللَّه: «إن قلت كيف موقع قوله ولو افتدى به … الخ» قال أحمد: لم يبين تطبيق لفظ الآية على هذا التقدير الذي ذهب إليه بوجه، ونحن نبين السبب الباعث له على إخراج الكلام عن ظاهره، ثم نقرر وجها يطابق الآية، وذلك أن هذه الواو المصاحبة للشرط تستدعى شرطا آخر يعطف عليه الشرط المقتربة به ضرورة، والعادة في مثل ذلك أن يكون المنطوق به منبها على المسكوت عنه بطريق الأولى، مثاله قولك: أكرم زيداً ولو أساء، فهذه الواو عطفت المذكور على محذوف تقديره: أكرم زيداً لو أحسن ولو أساء، إلا أنك نبهت بإيجاب إكرامه إن أساء على أن إكرامه إن أحسن بطريق الأولى. ومنه (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) معناه- واللَّه أعلم-: لو كان الحق على غيركم، ولو كان عليكم، ولكنه ذكر ما هو أعسر عليهم، فأوجبه تنبيها على ما هو أسهل وأولى بالوجوب، فإذا تبين مقتضى الواو في مثل هذه المواضع وجدت آية آل عمران هذه مخالفة لهذا النمط ظاهراً، لأن قوله: (وَلَوِ افْتَدى بِهِ) يقتضى شرطا آخر محذوفا يكون هذا المذكور منبها عليه بطريق الأولى، وهذه الحال المذكورة وهي حالة افتدائهم بملء الأرض ذهبا هي حالة أجدر الحالات بقبول الفدية، وليس وراءها حالة أخرى تكون أولى بالقبول منها، فلذلك قدر الكلام بمعنى: لن يقبل من أحد منهم فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهبا، حتى تبين حالة أخرى يكون الافتداء الخاص بملء الأرض ذهبا هو أولى بالقبول منها، فإذا انتفى حيث كان أولى فلأن ينتفي فيما عدا هذه الحالة أولى، فهذا كله بيان للباعث له على التقدير المذكور. وأما تنزيل الآية عليه فعسر جداً، فالأولى ذكر وجه يمكن تطبيق الآية عليه على أسهل وجه وأقرب مأخذ إن شاء اللَّه فنقول:
قبول الفدية التي هي ملء الأرض ذهبا يكون على أحوال: منها أن يؤخذ منه على وجه لقهر فدية عن نفسه كما تؤخذ الدية قهراً من مال القاتل على قول. ومنها أن يقول المفتدى في التقدير: أفدى نفسي بكذا، وقد لا يفعل. ومنها أن يقول هذا القول وينجز المقدار الذي يفدى به نفسه ويجعله حاضراً عتيداً، وقد يسلمه مثلا لمن يأمن منه قبول فديته.
وإذا تعددت الأحوال فالمراد في الآية أبلغ الأحوال وأجدرها بالقبول، وهو أن يفتدى بملء الأرض ذهبا افتداء محققا بأن يقدر على هذا الأمر العظيم ويسلمه وينجزه اختيارا، ومع ذلك لا يقبل منه فمجرد قوله أبذل المال وأقدر عليه أو ما يجرى هذا المجرى بطريق الأولى، فيكون دخول الواو والحالة هذه على بابها، تنبيها على أن ثم أحوالا أخر لا ينفع فيها القبول بطريق الأولى بالنسبة إلى الحالة المذكورة. وقد ورد هذا المعنى مكشوفا في قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ) واللَّه أعلم.
وهذا كله تسجيل بأنه لا محيص ولا مخلص لهم من الوعيد، وإلا فمن المعلوم أنهم أعجز عن الفلس في ذلك اليوم.
ونظير هذا التقدير من الأمثلة أن يقول القائل: لا أبيعك هذا الثوب بألف دينار ولو سلمنها إلى في يدي هذه. فتأمل هذا النظر فانه من السهل الممتنع. واللَّه ولى التوفيق.