للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الجمعة وأصبح بالشعب من أحد يوم السبت للنصف من شوال فمشى على رجليه فجعل يصف أصحابه للقتال كأنما بقوّم بهم القدح «١» . إن رأى صدراً خارجا قال: تأخر، وكان نزوله في عدوة الوادي وجعل ظهره وعسكره إلى أحد وأمّر عبد اللَّه بن جبير على الرماة وقال لهم: «انضحوا عنا بالنبل لا يأتونا من ورائنا» «٢» تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ تنزلهم. وقرأ عبد اللَّه للمؤمنين، بمعنى تسوى لهم وتهيئ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ مواطن ومواقف. وقد اتسع في قعد وقام حتى أجريا مجرى صار. واستعمل المقعد والمقام في معنى المكان. ومنه قوله تعالى: (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ) ، (قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ) من مجلسك وموضع حكمك وَاللَّهُ سَمِيعٌ لأقوالكم عليم بنياتكم وضمائركم إِذْ هَمَّتْ بدل من (إِذْ غَدَوْتَ) أو عمل فيه معنى (سَمِيعٌ عَلِيمٌ) . والطائفتان حيان من الأنصار: بنو سلمة من الخزرج، وبنو حارثة من الأوس، وهما الجناحان. خرج رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في ألف، وقيل في تسعمائة وخمسين، والمشركون في ثلاثة آلاف ووعدهم الفتح إن صبروا، فانخزل عبد اللَّه بن أبىّ بثلث الناس وقال: يا قوم، علام نقتل أنفسنا وأولادنا؟ فتبعهم عمرو بن حزم الأنصارى فقال: أنشدكم اللَّه في نبيكم وأنفسكم، فقال عبداك:

لو نعلم قتالا لاتبعناكم، فهمّ الحيان باتباع عبد اللَّه فعصمهم اللَّه فمضوا مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم «٣» . وعن ابن عباس رضى اللَّه عنه: أضمروا أن يرجعوا، فعزم اللَّه لهم على الرشد فثبتوا.

والظاهر أنها ما كانت إلا همة وحديث نفس، وكما لا تخلو النفس عند الشدة من بعض الهلع، ثم يردها صاحبها إلى الثبات والصبر ويوطنها على احتمال المكروه، كما قال عمرو بن الأطنابة:

أَقُولُ لَهَا إذَا جَشَأتْ وَجَاشَتْ … مَكَانَكِ تُحْمَدِى أوْ تَسْتَرِيحِى «٤»


(١) . قوله «كأنما يقوم بهم القدح» في الصحاح: القدح- بالكسر- السهم قبل أن يراش ويركب نصله. (ع)
(٢) . أخرجه ابن إسحاق في المغازي، قال: حدثني محمد بن شهاب وعاصم بن عمر ومحمد بن يحيى بن حبان والحصين ابن عبد الرحمن وغيرهم من علمائنا، كلهم قد حدث عن غزوة أحد. وكان من حديثهم قالوا: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم للمسلمين يوم أحد «إنى رأيت بقراً وأولتها خيراً. ورأيت في ذباب سيفي ثلماً- فذكر الحديث بطوله وفيه: ومات في ذلك اليوم رجل من الأنصار يقال له: مالك بن عمرو. وفيه: ذكرا للأمة وغير ذلك. ومن طريق ابن إسحاق أخرجه البيهقي في الدلائل وأورد منه الطبري من طريقه قطعة. وساقه عبد الرزاق عن معمر عن ابن شهاب عن عروة مطولا وأخرجه الطبري من رواية أسباط عن السدى بلفظ المصنف، إلى قوله «وأصبح بالشعب» وبقية ذلك هو من كلام ابن إسحاق «قوله فيه حتى يقوم بها القداح» وقع في رواية الواقدي عن ابن أخى الزهري عن عروة عن المسور بن مخرمة، وقد ساقه الواقدي بهذا الاسناد مطولا.
(٣) . هو في الذي قبله. وذكره ابن هشام في تهذيب السيرة بتمامه عن ابن إسحاق. [.....]
(٤) .
أبت لي عفتي وأبى تلادى … وأخذى الحمد بالثمن الربيح
وإقحامى على المكروه نفسي … وضربي هامة البطل المشيح
وقولي كلما جشأت وجاشت … مكانك تحمدي أو تستريحي
لأدفع عن مآثر صالحات … وأحمى بعد عن عرض صحيح
لعمرو بن الأطنابة وهي أمه، وأبوه يزيد بن مناة بن ثعلبة من باهلة. والتلاد: المال القديم الموروث. ويروى بلائي أى بأسى في الحروب. واستعار الثمن لما يبذله في المكارم على طريق التصريح. والربيح: الزائد. والاقحام:
تكليف الدخول في المكروه. ويروى: وإقدامى. ويروى «وأضرب» بدل «ضربي» وفيه دلالة على تجدد الضرب وإبرازه في صورة إلى أمر المشاهد وهو من عطف المصدر المؤول على المصدر الصريح. ويحتمل أنها جملة حالية والتقدير: وأنا أضرب. والهامة أعلى الرأس. والمشيح: الجاد في القتال، من أشاح إذا جد واجتهد.
وجشأت: تحركت واضطربت، وجاشت: غلت وارتفعت، وكل شيء يغلى فهو يجيش. ومكانك: اسم فعل.
أى الزمى يا نفس مكانك، يحمدك الناس إن ظفرت، أو تستريحي إن مت. ولأدفع: متعلق بالقول أو باسم الفعل أو بأبت لي، أى منعتني عفتي وما عطف عليها من الفرار. وإسناد الفعل لذلك مجاز عقلى من الاسناد للسبب.
وشبه سلامة العرض من الطعن بسلامة البيضة مثلا من الكسر فاستعار لها الصحة على طريق التصريح.