للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ولما نزلت الآية في اليتامى وما في أكل أموالهم من الحوب الكبير، خاف الأولياء «١» أن يلحقهم الحوب بترك الإقساط في حقوق اليتامى، وأخذوا يتحرّجون من ولايتهم، وكان الرجل منهم ربما كان تحته العشر من الأزواج والثمان والست فلا يقوم بحقوقهنّ ولا يعدل بينهن، فقيل لهم:

إن خفتم ترك العدل في حقوق اليتامى فتحرّجتم منها، فخافوا أيضاً ترك العدل بين النساء فقالوا عدد المنكوحات، لأنّ من تحرج من ذنب أو تاب عنه وهو مرتكب مثله فهو غير متحرّج ولا تائب، لأنه إنما وجب أن يُتحرج من الذنب ويُتاب عنه لقبحه، والقبح قائم في كل ذنب. وقيل:

كانوا لا يتحرّجون من الزنا «٢» وهم يتحرّجون من ولاية اليتامى، فقيل: إن خفتم الجور في حق اليتامى فخافوا الزنا، فانكحوا ما حلّ لكم من النساء، ولا تحوموا حول المحرّمات. وقيل:

كان الرجل يجد اليتيمة لها مال وجمال أو يكون وليها، فيتزوجها ضناً بها عن غيره، فربما اجتمعت عنده عشر منهن، فيخاف- لضعفهن وفقد من يغضب لهن- أن يظلمهنّ حقوقهن ويفرط فيما يجب لهنَّ، فقيل لهم: إن خفتم أن لا تقسطوا في يتامى النساء فانكحوا من غيرهن ما طاب لكم. ويقال للإناث اليتامى كما يقال للذكور، وهو جمع يتيمة على القلب، كما قيل:

أيامى، والأصل: أيائم ويتائم. وقرأ النخعي (تُقْسِطُوا) بفتح التاء على أن لا مزيدة مثلها في (لِئَلَّا يَعْلَمَ) يريد: وإن خفتم أن تجوروا ما طابَ ما حلّ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ لأنّ منهن ما حرم كاللاتى في آية التحريم. وقيل (ما) ذهابا إلى الصفة. ولأن الإناث من العقلاء يجرين مجرى غير العقلاء: ومنه قوله تعالى: (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ معدولة عن أعداد مكررة، وإنما منعت الصرف لما فيها من العدلين: عدلها عن صيغها، وعدلها عن تكررها، وهي نكرات يعرّفن بلام التعريف. تقول: فلان ينكح المثنى والثلاث والرباع، ومحلهن


(١) . قال محمود: «لما نزلت آية اليتامى خاف الأولياء … الخ» قال أحمد: قد ثبت أن قاعدة القدرية وعقيدتهم أن الكبيرة الواحدة توجب خلود العبد في العذاب وإن كان موحدا، ما لم يتب عنها، فمن ثم يقولون: لا تفيد التوبة عن بعض الذنوب والإصرار على بعضها، لأنه بواحدة من الكبائر ساوى الكافر في الخلود في العذاب، ولا يفيد توحيده ولا شيء من أعماله. هذا هو معتقدهم الفاسد الذي يروم الزمخشري تفسير الآية عليه فاحذره. أما أهل السنة فيقولون: إذا تاب العبد من بعض الذنوب كان الخطاب بوجود التوبة من باقيها متوجها عليه، وكأنه قام ببعض الواجبات وترك القيام ببعضها، فأفادته التوبة محو المتوب عنه بإذن اللَّه ووعده، وهو في العهدة فيما لم يتب عنه، فان كان تفسير الآية على أنهم خوطبوا بالتحرج في حقوق النساء والتوبة من الجور عليهن كما تابوا عن الحيف على اليتامى، فالأمر في ذلك منزل على ما بيناه من قواعد السنة، واللَّه ولى التوفيق.
(٢) . عاد كلامه. قال محمود: وقيل كانوا لا يتحرجون من الزنا وهم يتحرجون من ولاية اليتامى … الخ» قال أحمد:
وهذا التأويل الذي أخرجه جدير بالتقدم وهو الأظهر، وتكون الآية معه لبيان حكم اليتامى، وتحذيراً من التورط في الجور عليهن، وأمراً بالاحتياط. وفي غيرهن متسع إلى الأربع، وأصدق شاهد على أنه هو المراد.