للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ هي أن المخففة من الثقيلة. والمعنى أنه إذا سمعتم، أى نزل عليكم أنّ الشأن كذا والشأن ما أفادته الجملة بشرطها وجزائها، و «أن» مع ما في حيزها في موضع الرفع بنزل، أو في موضع النصب بنزّل، فيمن قرأ به. والمنزل عليهم في الكتاب: هو ما نزل عليهم بمكة من قوله: (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) وذلك أن المشركين كانوا يخوضون في ذكر القرآن في مجالسهم فيستهزءون به، فنهى المسلمون عن القعود معهم ما داموا خائضين فيه. وكان أحبار اليهود بالمدينة يفعلون نحو فعل المشركين، فنهوا أن يقعدوا معهم كما نهوا عن مجالسة المشركين بمكة. وكان الذين يقاعدون الخائضين في القرآن من الأحبار هم المنافقون، فقيل لهم إنكم إذاً مثل الأحبار في الكفر إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ يعنى القاعدين والمقعود معهم. فإن قلت: الضمير في قوله فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ إلى من يرجع؟ قلت:

إلى من دل عليه يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها كأنه قيل: فلا تقعدوا مع الكافرين بها والمستهزئين بها. فإن قلت: لم يكونوا مثلهم بالمجالسة إليهم في وقت الخوض؟ قلت: لأنهم إذا لم ينكروا عليهم كانوا راضين. والراضي بالكفر كافر. فإن قلت: فهلا كان المسلمون بمكة- حين كانوا يجالسون الخائضين من المشركين- منافقين؟ قلت: لأنهم كانوا لا ينكرون لعجزهم وهؤلاء لم ينكروا مع قدرتهم، فكان ترك الإنكار لرضاهم الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ إما بدل من الذين يتخذون وإما صفة للمنافقين أو نصب على الذم منهم (يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ) أى ينتظرون بكم ما يتجدد لكم من ظفر أو إخفاق «١» أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ مظاهرين فأسهموا لنا في الغنيمة أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ ألم نغلبكم ونتمكن من قتلكم وأسركم فأبقينا عليكم وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بأن ثبطناهم عنكم، وخيلنا لهم ما ضعفت به قلوبهم ومرضوا في قتالكم، وتوانينا في مظاهرتهم عليكم، فهاتوا نصيباً لنا بما أصبتم. وقرئ (وَنَمْنَعْكُمْ) بالنصب بإضمار أن، قال الحطيئة:

أَلَمْ أَكُ جَارَكُمْ وَيَكُونَ بَيْنِى … وَبَيْنَكُمُ الْمَوَدَّةُ وَالإِخَاءُ «٢»

فإن قلت: لم سمى ظفر المسلمين فتحاً، وظفر الكافرين نصيبا؟ قلت: تعظيما لشأن المسلمين وتخسيساً لحظ الكافرين لأن ظفر المسلمين أمر عظيم «٣» تفتح لهم أبواب


(١) . قوله «أو إخفاق» في الصحاح: أخفق الرجل إذا غزا ولم يغنم. (ع)
(٢) . للحطيئة يخاطب الزبرقان، وهم بنو عوف بن كعب، وكان جارهم ثم انتقل إلى بنى رفيع، فذكر الزبرقان بحق الجوار، وأنه ينبغي أن لا يقاطعونه. والاستفهام للتقرير: أى أقروا بحق الجوار، فيكون بينا تمام المودة والمؤاخاة، أى الموافقة في العسر واليسر، والبأساء والضراء.
(٣) . قال محمود: «سمى ظفر المسلمين فتحا تعظيما لشأن المسلمين … الخ» قال أحمد: وهذا من محاسن نكت أسرار القرآن، فان الذي كان يتفق للمسلمين فيه: استئصال لشأفة الكفار واستيلاء على أرضهم وديارهم وأموالهم وأرض لم يطؤها. وأما ما كان يتفق للكفار فمثل الغلبة والقدرة التي لا يبلغ شأنها أن تسمى فتحا، فالتفريق بينهما مطابق أيضاً للواقع، واللَّه أعلم.