للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وعلى أسباب التوصل إليها، وانتفع الجن بالإنس حيث أطاعوهم وساعدوهم على مرادهم وشهوتهم في إغوائهم، وقيل استمتاع الإنس بالجن ما في قوله وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ وأن الرجل كان إذا نزل وادياً وخاف قال: أعوذ بربّ هذا الوادي، يعنى به كبير الجن. واستمتاع الجن بالإنس: اعترف الإنس لهم بأنهم يقدرون على الدفع عنهم وإجارتهم لهم وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا يعنون يوم البعث. وهذا الكلام اعتراف بما كان منهم من طاعة الشياطين واتباع الهوى والتكذيب بالبعث واستسلام لربهم وتحسر على حالهم خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ أى يخلدون في عذاب النار الأبد كله «١» ، إلا ما شاء الله، إلا الأوقات التي ينقلون فيها من عذاب النّار إلى عذاب الزمهرير، فقد روى أنهم يدخلون واديا فيه من الزمهرير ما يميز بعض أوصالهم من بعض، فيتعاوون ويطلبون الردّ إلى الجحيم. أو يكون من قول الموتور «٢» الذي ظفر بواتره ولم يزل يحرق عليه أنيابه وقد طلب إليه أن ينفس عن خناقه.

أهلكنى الله إن نفست عنك إلا إذا شئت، وقد علم أنه لا يشاء إلا التشفي منه بأقصى ما يقدر


(١) . قال محمود: «معنى هذا الاستثناء أنهم يخلدون في عذاب النار الأبد كله … الخ» قال أحمد: قد ثبت خلود الكفار في العذاب ثبوتا قطعياً، فمن ثم اعتنى العلماء بالكلام على الاستثناء في هذه الآية وفي أختها في سورة هود، فذهب بعضهم إلى أنها شاملة لعصاة الموحدين وللكفار، والمستثنى العصاة لأنهم لا يخلدون، وهذا تأويل أهل السنة. وقد غلط الزمخشري في إنكاره في آية هود وتناهى إلى ما نعوذ بالله منه، فقدح في عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنه راوى الحديث الشاهد لهذا التأويل، ونحن نبرأ إلى الله تعالى من القدح في مثل عبد الله وهو من جلة الصحابة رضوان الله عليهم وفقهائهم وزهادهم. وذهب بعضهم إلى أن هذا الاستثناء محدود بمشيئة رفع العذاب، أى مخلدون إلا أن يشاء الله لو شاء. وفائدته إظهار القدرة والإعلان بأن خلودهم إنما كان لأن الله تعالى قد شاءه، وكان من الجائز العقلي في مشيئته أن لا يعذبهم، ولو عذبهم لا يخلدهم، وأن ذلك ليس بأمر واجب عليه وإنما هو مقتضى مشيئته وإرادته عز وجل. وفيها على هذا الوجه دفع في صدر المعتزلة الذين يزعمون أن تخليد الكفار واجب على الله تعالى بمقتضى الحكمة، وأنه لا يجوز في العقل أن يشاء خلاف ذلك. وذهب الزجاج إلى وجه لطيف إنما يظهر بالبسط فقال: المراد- والله أعلم- إلا ما شاء من زيادة العذاب، ولم يبين وجه استقامة الاستثناء، والمستثنى على هذا التأويل لم يغاير المستثنى منه في الحكم، ونحن نبينه فنقول: العذاب- والعياذ بالله- على درجات متفاوتة، فكأن المراد أنهم مخلدون في جنس العذاب، إلا ما شاء ربك من زيادة تبلغ الغاية وتنتهي إلى أقصى النهاية، حتى تكاد لبلوغها الغاية ومباينتها لأنواع العذاب في الشدة تعد ليس من جنس العذاب وخارجة عنه، والشيء إذا بلغ الغاية عندهم عبروا عنه بالضد كما تقدم في التعبير عن كثرة الفعل برب وقد، وهما موضوعان لضرر الكثرة من القلة، وذلك أمر يعتاد في لغة العرب. وقد حام أبو الطيب حوله فقال:
لقد جدت حتى كاد يبخل حاتم … إلى المنتهى ومن السرور يكاد
فكان هؤلاء إذا بلغوا إلى غاية العذاب ونهاية الشدة فقد وصلوا إلى الحد الذي يكاد أن يخرج من اسم العذاب المطلق، حتى يسوغ معاملته في التعبير بمعاملة المغاير، وهو وجه حسن لا يكاد يفهم من كلام الزجاج إلا بعد هذا البسط. وفي تفسير ابن عباس رضى الله عنه ما يؤيده، والله الموفق.
(٢) . قوله «قوله الموتور» الموتور: المظلوم. (ع)