للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

بخطابك إلى الثالث فقلت: يا فلان من حقك أن تلزم الطريقة الحميدة في مجارى أمورك، وتستوي على جادّة السداد في مصادرك ومواردك، نبهته بالتفاتك نحوه فضل تنبيه، واستدعيت إصغاءه إلى إرشادك زيادة استدعاء، وأوجدته بالانتقال من الغيبة إلى المواجهة هازاً من طبعه ما لا يجده إذا استمررت على لفظ الغيبة، وهكذا الافتنان في الحديث والخروج فيه من صنف إلى صنف، يستفتح الآذان للاستماع، ويستهش الأنفس للقبول، وبلغنا بإسناد صحيح عن إبراهيم عن علقمة: أنّ كل شيء نزل فيه: (يا أَيُّهَا النَّاسُ) «١» فهو مكي، و (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فهو مدنى، فقوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ خطاب لمشركي مكة، و «يا» حرف وضع في أصله لنداء البعيد، صوت يهتف به الرجل بمن يناديه. وأما نداء القريب فله أى والهمزة، ثم استعمل في مناداة من سها وغفل وإن قرب. تنزيلا له منزلة من بعد، فإذا نودي به القريب المفاطن فذلك للتأكيد المؤذن بأن الخطاب الذي يتلوه معنىّ به جداً. فإن قلت: فما بال الداعي يقول في جؤاره: يا رب، «٢» ويا اللَّه، وهو أقرب إليه من حبل الوريد، وأسمع به وأبصر؟ قلت: هو استقصار منه لنفسه، واستبعاد لها من مظانّ الزلفى وما يقرّبه إلى رضوان اللَّه ومنازل المقرّبين، هضما لنفسه وإقرارا عليها بالتفريط في جنب اللَّه، مع فرط التهالك على استجابة دعوته والإذن لندائه وابتهاله، و «أى» وصلة إلى نداء ما فيه الألف واللام، كما أنّ «ذو» و «الذي» وصلتان إلى الوصف بأسماء الأجناس ووصف المعارف بالجمل. وهو اسم مبهم مفتقر إلى ما يوضحه ويزيل إبهامه، فلا بد أن يردفه اسم جنس أو ما يجرى مجراه يتصف به حتى يصح المقصود بالنداء، فالذي يعمل فيه حرف النداء هو «أىّ» والاسم التابع له صفته، كقولك: يا زيد الظريف إلا أن «أيا» لا يستقل بنفسه استقلال «زيد» فلم ينفك من الصفة. وفي هذا التدرّج من الإبهام إلى التوضيح ضرب من التأكيد والتشديد. وكلمة التنبيه


(١) . أخرجه ابن أبى شيبة قال: حدثنا وكيع عن الأعمش عن إبراهيم بهذا. وأخرجه البزار من رواية الأقيس ابن الربيع عن الأعمش موصول بذكر عبد اللَّه بن مسعود فيه. وقال: لا نعلم أحدا أسنده إلا قيس واعترض بما رواه الحاكم والبيهقي في الدلائل عنه. وابن مردويه في تفسير الحج. كلهم من طريق وكيع أيضا قال: حدثنا أبى عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد اللَّه. (فائدة) هذا محمول على أن المراد بالمكى ما وقع خطابا لأهل مكة، والمدني ما وقع خطابا لأهل المدينة لأن الغالب على أهل مكة كان الكفر فخوطبوا (يا أَيُّهَا النَّاسُ) . وكان الغالب على أهل المدينة الايمان فخوطبوا: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) . أفاده الشيخ بهاء الدين ابن عقيل.
(٢) . قوله «يقول في جؤاره: يا رب» في الصحاح: جأر الثور يجأر، أى صاح. وجأر الرجل إلى اللَّه عز وجل:
أى تضرع. (ع)