للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

«هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ..؟» وفائدة هذا التعريف أنه إذا عرف أنه لا رازق غيره لم يعلّق قلبه بأحد في طلب شىء، ولم يتذلل في ارتفاق لمخلوق، وكما لا يرى رزقه من مخلوق لا يراه من نفسه أيضا فيتخلّص من ظلمات تدبيره واحتياله «١» ، ومن توّهم شىء من أمثاله وأشكاله، ويستريح لشهود تقديره، ولا محالة يخلص في توكله وتفويضه.

قوله جل ذكره:

[[سورة فاطر (٣٥) : آية ٤]]

وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤)

هذه تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم، وتسهيل للصبر عليه فإذا علم أن الأنبياء عليهم السلام استقبلهم مثلما استقبله، وأنّهم صبروا وأنّ الله كفاهم، فهو يسلك سبيلهم ويقتدى بهم، وكما كفاهم علم أنه أيضا يكفيه. وفي هذا إشارة للحكماء وأرباب القلوب في موقفهم من العوامّ والأجانب عن هذه الطريقة، فإنهم لا يقبلون منهم إلا القليل، بينما أهل الحقائق أبدا منهم في مقاساة الأذى إلا بستر حالهم عنهم «٢» .

والعوامّ أقرب إلى هذه الطريقة من القرّاء «٣» المتقشفين، ومن العلماء الذين هم لهذه الأصول ينكرون.

قوله جل ذكره:

[[سورة فاطر (٣٥) : آية ٥]]

يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (٥)


(١) فالواجب إسقاط التدبير وشهود التقدير- كما قلنا في الهامش منذ قليل.
(٢) لجأ «ملامتية» نيسابور إلى هذا الستر، واكتفوا بعلم الله بأسرار هم وصلاح باطنهم، ولم يأبهوا بالمخلوقين.
بل رغبة في تأكيد علاقتهم بالله، وإمعانا في إخفاء حقائقهم كانوا يقومون بأشياء تستوجب الملامة.. نقول ذلك رغبة في توضيح أن أفكار هذا المذهب كانت معروفة في مدينة نيسابور موطن القشيري، كما كان السلمى جد أبى عبد الرحمن صديقه الحميم واحدا من رواد هذا المذهب وأئمته.
(٣) القراء جماعة من قراء القرآن ظهروا منذ عهد مبكر (ولازموا الأعمدة في الليل يتهجدون، حتى إذا جاء النهار استقوا الماء واحتطبوا للنبى وكانوا في صحبته (ابن سعد ح ٣ ق ١ ص ٣٦، ٣٧) ، ولكن اللفظة أطلقت فيما بعد بصفة عامة على (الذين يزورون عن الدنيا ويخصصون أنفسهم للعمل الصالح والزهد والتأمل) ابن سعد ج ٦ ص ٢٥٥. (ويقال تقرى بتسهيل الهمزة أي تنسك) (أمالى القالي ح ٣ ص ٤٧) .. ولقد نبه عمر بن الخطاب إلى ضرورة تنقية هذا اللون من التعبد من كل الأغراض والأمراض حيث يقول: «يا أيها الناس إنه أتى على حين وأنا أحسب أنه من قرأ القرآن إنما يريد به الله وما عنده، ألا وقد خيل إلى أن أقواما يقرءون القرآن يريدون به ما عند الله، ألا فأريدوا الله بقراءتكم وبأعمالكم» البيان والتبيين ح ٣ ص ١٣٨. ولكن يبدو أن الزمن قد فعل فعله في خروج طوائف من القراء عن هذا الخط ... الأمر الذي جعل القشيري- وقد عاش في القرنين الرابع والخامس- يتحفظ في الحكم عليهم.

<<  <  ج: ص:  >  >>