للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولاختلاف المراد بالكلم في السورتين. قيل في سورة المائدة: يحرفون الكلم من بعد مواضعه. أي ينقلونه عن الموضع الذي وضعه الله فيه، فصار وطنه ومستقره، إلى غير الموضع. فبقي كالغريب المتأسف عليه الذي يقال فيه هذا غريب من بعد مواضعه ومقارّه. ولا يوجد هذا المعنى في مثل راعِنا وغَيْرَ مُسْمَعٍ وإن وجد على بعد فليس الوضع اللغويّ مما يعبأ بانتقاله عن موضعه كالوضع الشرعيّ. ولولا اشتمال هذا النقل على الهزء والسخرية لما عظم أمره. فلذلك جاء هنا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ غير مقرون بما قرن به الأول من صورة التأسف. والله أعلم.

انتهى.

وقال العلامة أبو السعود: والمراد بالتحريف هاهنا، إما ما في التوراة خاصة وإما ما هو أعم منه، ومما سيحكى عنهم من الكلمات المعهودة الصادرة عنهم في أثناء المحاورة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا مساغ لإرادة تلك الكلمات خاصة بأن يجعل عطف قوله تعالى وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وما بعده، على ما قبله عطفا تفسيريا. لأنه يستدعي اختصاص حكم الشرطية الآتية وما بعدها بهنّ من غير تعرض لتحريفهم التوراة. مع أنه معظم جناياتهم المعدودة فقولهم سَمِعْنا وَعَصَيْنا ينبغي أن يجري على إطلاقه من غير تقييد بزمان أو مكان ولا تخصيص بمادة دون مادة. بل وأن يحمل على ما هو أعم من القول الحقيقيّ ومما يترجم عنه عنادهم ومكابرتهم. أي يقول في كل أمر مخالف لأهوائهم الفاسدة سواء كان بمحضر النبيّ صلى الله عليه وسلم أو لا، بلسان المقال أو الحال: سَمِعْنا وَعَصَيْنا عنادا أو تحقيقا للمخالفة. انتهى.

قال ابن كثير: ويقولون سمعنا أي: سمعنا ما قلته يا محمد ولا نطيعك فيه.

هكذا فسره مجاهد وابن زيد، وهو المراد. وهذا أبلغ في كفرهم وعنادهم وأنهم يتولون عن كتاب الله بعد ما عقلوه وهم يعلمون ما عليهم في ذلك من الإثم والعقوبة. وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ عطف على سَمِعْنا وَعَصَيْنا داخل تحت القول أي: ويقولون ذلك في أثناء مخاطبته عليه الصلاة والسلام خاصة. وهو كلام ذو وجهين محتمل للشر. بأن يحمل على معنى اسْمَعْ، حال كونك غير مسمع كلاما أصلا. بصمم أو موت. أي مدعوّا عليك بلا سمعت. أو غير مسمع كلاما ترضاه. وللخير بأن يحمل على: اسمع منا غير مسمع مكروها. كانوا يخاطبون به النبيّ صلى الله عليه وسلم استهزاء به (عليهم اللعنة) مظهرين له إرادة المعنى الأخير وهم مضمرون المعنى الأول مطمئنون به وَراعِنا عطف على ما قبله. أي ويقولون في أثناء خطابهم له صلى الله عليه وسلم هذا أيضا. وهي كلمة ذات وجهين أيضا محتملة للخير بحملها

<<  <  ج: ص:  >  >>