للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

به كما اعترف به آدم. فمن أقرّ بالذنب وباء به ونزّه ربّه فقد أشبه أباه آدم، ومن أشبه أباه فما ظلم. ومن برّأ نفسه واحتجّ على ربّه بالقدر فقد أشبه إبليس. ولا ريب أن هؤلاء القدرية الإبليسية والمشركية شرّ من القدرية النفاة. لأن النفاة إنما نفوه تنزيها للربّ وتعظيما له أن يقدّر الذنب ثم يلوم عليه ويعاقب. ونزهوه أن يعاقب العبد على ما لا صنع للعبد فيه البتة. بل هو بمنزلة طوله وقصره وسواده وبياضه.. ونحو ذلك.

كما يحكى عن بعض الجبرية إنه حضر مجلس بعض الولاة. فأتى بطرّار (وهو الذي يقطع الهمايين أو الأكمام ويستلّ ما فيها) . أحول. فقال له الوالي: ما ترى فيه؟

فقال: اضربه خمسة عشر- يعنى سوطا- فقال له بعض الحاضرين- ممّن ينفي الجبر- بل ينبغي أن يضرب ثلاثين سوطا: خمسة عشر لطرّه ومثلها لحوله. فقال الجبريّ: كيف يضرب على الحول ولا صنع له فيه؟ فقال: كما يضرب على الطرّ ولا صنع له فيه، عندك.. فبهت الجبري.

وأما (القدرية الإبليسية والمشركية) فكثير منهم منسلخ عن الشرع، عدوّ لله ورسله، لا يقرّ بأمر ولا نهي، وتلك وراثة عن شيوخه الذين قال الله فيهم: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: ١٤٨] ، وقال تعالى: وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ، كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النحل: ٣٥] . وقال تعالى: وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ، ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ، إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ [الزخرف: ٢٠] . وقال: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [يس: ٤٧] ، فهذه أربعة مواضع في القرآن بيّن سبحانه فيها أن الاحتجاج بالقدر من فعل المشركين المكذبين للرسل.

وقد افترق الناس في الكلام على هذه الآيات أربع فرق:

الفرقة الأولى: جعلت هذه الحجة حجة صحيحة، وأنّ للمحتج بها الحجة على الله. ثم افترق هؤلاء فرقتين: (فرقة) كذبت بالأمر والوعد والوعيد، وزعمت أن الأمر والنهي والوعد والوعيد، بعد هذا، يكون ظلما، والله لا يظلم من خلقه أحدا! و (فرقة) صدقت بالأمر والنهي والوعد والوعيد وقالت: ليس ذلك بظلم. والله يتصرف في ملكه كيف يشاء ويعذب العبد على ما لا صنع له فيه، بل يعذبه على فعله هو سبحانه لا على فعل عبده. إذ العبد لا فعل له، والملك ملكه ولا يسأل عما

<<  <  ج: ص:  >  >>